الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            التقنيات الحديثة (فوائد وأضرار) (دراسة للتأثيرات السلبية على صحة الفرد)

            الأستاذ الدكتور / شعاع اليوسف

            - إلى أين يمضي بنا التطور التقني؟

            في كل دورة من دورات الزمان تتناسى الدول القوية الخسائر والمآسي التي خلفتها تقنيات الحروب للحضارات الغابرة وتعود للحرب من جديد! فلماذا يحدث ذلك على مر العصور؟ ربما لأن الدول القوية في أي زمان ومكان لا تعطي الاهتمام الكافي لمعنى الحضارة الحقة وتطبيقاتها الإنسانية كما تعطي الأهمية للتقنيات المادية [1] يقول تعالى: ( قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) (الأنعام:11) ...

            لقد كان مفهوم الحضارة عند «ابن خلدون» صحيحا، ألا وهو فساد العمران من حيث صورته (هو ما يصيب الدولة) وكذلك فسـاد العمران من حيث مـادته (هو ما يصيب الأفراد الذين هـم مادة العمران) ويصف «ابن خلدون» الحضارة بقوله: التفنن في الترف، واستجادة أحواله، والكلف بالصنائع التي تؤنق من أصنافه وسائر فنونه، من الصنائع المهيأة للمطابخ والملابس والمباني والفرش والآنية وسائر أحوال المنـزل . ويعتبر «ابن خلدون» هـذه الحضارة مزيفة ومصيرها إلى الزوال؛ لأنها تجعل من القيم السائدة قيما حسية، أي موجهة لإشباع الحواس فقط، إن ذلك على وجه الدقة هـو واقع حضارتنا الحديثة.

            ويقترح «ابن خلدون» فكرة الضبط الاجتماعي، أو الوازع، التي يتم بها التحكم في السلوك الاجتماعي على المستوى المجتمعي، وهي قضية [ ص: 45 ] مركزية؛ لأنها تتوسط بين حالتين اجتماعيتين هـما البداوة (العصبية) والعمران (الحضارة) [2] . وقد نختلف هـنا مع «ابن خلدون» في معنى الترف، فهو في الحقيقة ليس حالة من حالات الحضارة، بل هـو موقف منها، وعلى مر العصور وجد الفقراء المترفون وكذلك الأغنياء المتقشفون. وكم من أغنياء اليوم هـاربون من سطوة التقنيات إلى الغابات والخلاء للاحتماء بالطبيعة الأم؛ واستبدال المنتجات الملوثة المصنعة بغيرها من الطبيعية الصافية النقية [3] .

            وتهتم مجلة «دار الشبيجل» الألمانية بأضرار التقنيات بصفة خاصة، حيث تسلط الضوء على أحدث التقنيات وسلبياتها المتعددة. وقد ختمت مجلة «دار الشبيجل» الألمانية القرن العشرين بسلسلة ذات عشرة مواضيع حيوية تمثل شرايين الحياة للجنس البشري ألا وهي: طب الغد؛ الانفجار السكاني والمصادر المحدودة؛ عصر المعلومات ؛ كوكب الأرض والثروة المهددة؛ مستقبل الاقتصاد؛ التقنية ومصانع المستقبل؛ السياسة العالمية ؛ مستقبل الثقافة؛ عوالم الحياة المستقبلية؛ وختمت الأبحاث السابقة بموضوع شيق عن حدود المعرفة؛ الذي تضمن بدوره أربعة أبحاث عن: سر الحياة؛ سر الإبداع؛ مستقبل الأديان العالمية؛ الدماغ والوعي وكيفية فهم السلوكيات المختلفة.

            إن وضع اليد على ( فهم كيف نفهم؟) هـو مفتاح التحكم في الإنسان وبالتالي التحكم في صنع وتوزيع واستخدام التقنيات المختلفة. وهناك من يطمح إلى تطبيق ذلك المفهوم كما في جماعة مدرسة علم النفس السلوكي [ ص: 46 ] التي مثلها «ب. ف. سكينر» في كتابه: «ما خلف الحرية والكرامة Beyond Freedom and Dignity» خير تمثيل، وقد ترجم الكتاب إلى العربية تحت عنوان: «تقنية السلوك الإنساني». يقول العالم «سكينر، B.F.SKinner» : «إن ما نحتاجه هـو تقنية للسلوك، فحينئذ يمكننا أن نحل مشكلاتنا بسرعة معقولة إذا ما استطعنا ضبط نمو سكان العالم بالدقة نفسها التي نضبط بها مسار سفينة فضاء، أو تحسين الزراعة والصناعة بشيء من الثقة والأمان التي نسرع بها ذرات الطاقة العالية» .. لكن «سكينر» يستدرك مدى الصعوبة التي تقف أمامه فيعقب: غير أن تقنية «السلوك التي يجب أن تضاهي في القوة والدقة التقنية الفيزيائية البيولوجية» غير موجودة في عالمنا اليوم، وللأسف الشديد.

            وإذا كان «سكينر» قد اعتبر أن الكرامة وهم والعقل أعمى فإن «سنجر، Singer» رئيس معهد (ماكس بلانك) لأبحاث الدماغ في فرانكفورت لا يرى في (الإرادة الإنسانية) أكثر من تركيبة ثقافية يمكن السيطرة عليها (!) هـكذا تصب الجهود العلمية اليوم في حقل (العلوم العصبية) لاكتشاف أسرار الدماغ سيد العالم، وهو ما جعل رئيسا أمريكيا يصرح: «إن عالما تجلس فيه الأبحاث العصبية على العرش وجب أن يعلو هـامتها تاج أمريكي».

            لقد ودعنا القرن العشرين، وهو قرن حافل بالاختراعات والابتكارات، ويكفيه فخرا أنه قرن البث المباشر والهاتف النقال والإنترنت والحواسيب فائقة الذكاء. وقد أبدع فيه العقل البشري فهيأ لذاته كل أسباب الرفاهية والهناء، ولم ينس أن يهيئ لغيره كل أسباب الشقاء والتعذيب أيضا. كذلك زاد طغيان [ ص: 47 ] التقنية المهيأة للقتل والدمار مقابل قلة من التقنيات المرصودة لمقاومة المجاعات والفقر والمرض. وبينما حقق القرن التاسع عشر تطورا في الحياة العادلة بكل صورها الحضارية فإن القرن العشرين وما تلاه قد أبرز الدور الأكبر للدول (ذات التقنية المتطورة) في عمليات القتل المنظم غير المسبوقة في الحجم والتكرار ولم تجد مواعظ التاريخ نفعا في ميادين الحروب! ويبدو أن حركة التاريخ والحضارة هـي تجربة واحـدة متـكررة، ولنتذكر دوما بأن الحضارة لا تفنى وإنما هـي تموت وتتحلل كأوراق الشجر المتساقطة التي تسمد الأرض استعدادا لبزوغ حضارة جديدة غير معتبرة بما سبقها من الضحايا.

            إن البيئة العالمية الجديدة قد قدمت أكثر من دليل يؤكد رحلة السقوط البطيء للفرد في دوامة التقنيات المعاصرة. يقول المفكر «روجيه جارودي» : الإنسان ينهار الآن، ونحن نعيش في عالم ملئ بالعنف والفوضى، إنه عالم الغابة وبداية انهيار الحضارة الغربية التي فرضت علينا قيمها ونمط حياتها. ويأسف «روجيه جارودي» بشأن هـذه الهيمنة التقنية والعسكرية الساحقة، التي هـي لإمبراطورية ليس لها أي مشروع إنساني يمكن أن يعطي أهدافا سامية للحياة [4] .

            وبالرغم من سيطرة التقنيات فإن غالبية البشر تشكو من غلاء المعيشة، ومن التلوث البيئي، ومن مشاكل في الصحة، ومن ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، وغير ذلك كثير. كذلك فالجميع يشعر بما يمر به العالم اليوم من قلق واضطراب وحروب ودمار وتلوث للبيئة وفساد في الذوق والأخلاق ثم رفاهية القلة على حساب الكثرة. هـكذا يواجه الفرد اليوم عددا من [ ص: 48 ] التحديات أهمها التحدي التقني إلى جانب التحدي الفكري والسياسي والاقتصادي والتربوي والإعلامي.. ترى كيف سوف ينعكس ذلك كله على النفس الإنسانية ؟ وهل سيشهد العالم فترة أشد قلقا من الفترة التي نعيشها الآن؟ فقد أصبح من النادر جدا أن تلتقي فردا واحدا قرير العين مطمئن النفس هـادئ البال، ينطبق علينا قول الشاعر:

            كل من صادفت يشكو دهره ليت شعري هـذه الدنيا لمن؟

            ولا شك في أن معاناة شعوب العالم الثالث سوف تزداد بؤسا، فهي شعوب تعطي المواد الأولية النقية وتأخذ الردئ الملوث من نتاج المصانع! تشتري ولا تبيع، ولا تنتج بقـدر ما تستهلك من نفايات الغرب ومن تقنـيات قد لا تعرف ضراوة خطرها حتى اليوم! إن الرؤى المستقبلية وما سوف يتكشف عنه هـذا القرن الذي ينطلق في إنجازاته بسرعة الصاروخ قد تكون أغرب من الخيال، ولن تلحق به شعوب العالم الثالث إلا بالتسلح بأحدث التقنيات الأخلاقية والعلمية على حد متواز ومتكافئ؛ إن كل ما تحتاجه هـذه الأمم هـو توخي الحذر الشديد مما تستورده من الغرب؛ وكذلك استقراء المستقبل السلبي لبعض التقنيات أو الحد من استخدامها. كذلك يمكنها تطوير الحاضر الإيجابي في كل ما تملك من إمكانيات طبيعية وتشجيع المواطن على استخدامها، مع الإصرار على إدخال الإبداع والحث على الاختراع والابتكار السليم الذي تحمد عواقبه،

            يقول تعالى: ( فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما ) (طه:114) . [ ص: 49 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية