- أصل اعتبار المآل
هذا من أعظم الأصول -في السنة النبوية- التي تدل على لزوم النظر في المستقبل ومراعاته، يقول الشاطبي : «النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة. وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعـد نظره إلى ما يئول إليه ذلك الفعل. فقد يكون مشروعا لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه. وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك» [1] . وفي جميع هـذه الحالات لا يصح إطلاق القول بالمشروعية أو بعدمها إلا بعد مراعاة المآل، قال: «وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق، محمود الغب، جار على مقاصد الشريعة» [2] . [ ص: 62 ]
- المآل نظر مستقبلي
إن «اعتبار المآل» هـو نوع من الموازنة بين ظاهر الدليل الشرعي ونتائجه من مصالح أو مفاسد، فهو الأثر المترتب عن الفعل. لذلك عرف محمود عثمان « المآل » بأن: «يأخذ الفعل حكما يتفق مع ما يئول إليه؛ سواء أكان الفاعل يقصد ذلك الذي آل إليه الفعل أم لا يقصده. فإذا كان الفعل يؤدي إلى مطلوب فهو مطلوب، وإن كان لا يؤدي إلا إلى شر فهو منهي عنه» [3] . أما الأستاذ الريسوني فقال: «معناه النظر فيما يمكن أن تئول إليه الأفعال والتصرفات والتكاليف موضوع الاجتهاد والإفتاء والتوجيه وإدخال ذلك في الحسبان عند الحكم والفتوى» [4] .
ويبدو لي أن أدق تعريف لاعتبار المآل هـو تعريف الأستاذ الأنصاري : «أصل كلي يقتضي اعتباره تنـزيل الحكم على الفعل بما يناسب عاقبته المتوقعة استقبالا» [5] .
وإنما وجب اعتبار المآل؛ لأنه لا يتم النظر في الأسباب إلا مع استحضار المسببات، قال الشاطبي : «الأعمال مقدمات لنتائج المصالح، فإنها أسباب لمسببات هـي مقصودة للشارع، والمسببات هـي مآلات الأسباب، فاعتبارها في جريان الأسباب مطلوب، وهو معنى النظر في المآلات» [6] . [ ص: 63 ] وقد فرع الشاطبي على هـذا الأصل العظيم أربعة قواعد شرعية: الذرائع ، والحيل ، ومراعاة الخلاف ، والاستحسان [7] .
- النبي الحكيم يراعي المآلات
ثم اعتبر الشاطبي أن الأدلة الشرعية والاستقراء التام يدلان على أن المآلات معتبرة في أصل المشروعية [8] ، وأقتصر من هـذه الحجج على حديثين:
- الحديث الأول: ( لعائشـة ، رضـي الله عنها، قال لها النبي صلى الله عليه وسلم : «لولا حداثة قومك بالكفر -وفي لفظ: لولا قومك حديث عهدهم بكفر- لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين... وفي آخر: لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين... ) [9] .
وقد بوب البخاري على هـذا الحديث في كتاب العلم: باب: من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه؛ فيقعوا في أشد منه. قال الكشميري : الاختيارات؛ أي: الجائزات، يريد أن العمل بالمرجوح مع العلم بالراجح جائز إذا كانت فيه مصلحة [10] . وفي الفتح: «خشي أن يظنوا لأجل [ ص: 64 ] قرب عهدهم بالإسلام أنه غير بناءها؛ لينفرد بالفخر عليهم في ذلك» [11] . ولذلك اعتبر القرطبي أن الحديث حجـة لمالك على القول بسد الذرائع [12] . إذ في الحـديث: ترك بعض الأمـور التي يستصوب عملها إذا خيف تولد ما هـو أضر من تركه. وفيه استئلاف الناس على الإيمان، وتسهيل الأمور عليهم حتى لا ينفروا؛ شريطة عدم تعطيل ركن من أركان الشرع [13] . هـكذا يعلمنا الرسول عليه السلام أن نحسب للمستقبل حسابه في كل أمورنا الدينية والدنيوية.
- الحديث الثاني: ( لما صدر من بعض المنافقين انتقاص من النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ، وقال أبي بن سلول : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، طلب عمر رضي الله عنه أن يقتل من ظهر نفاقه، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أجابه: «دعه، لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه»؛ وفي لفظ: «أخاف أن يتحدث الناس... ) [14] .
وذكر الشيخ دراز في وجه تعارض اعتبار الحال والمآل هـنا: «موجب القتل حاصل؛ وهو الكفر بعد النطق بالشهادتين، والسعي في إفساد حال المسلمين كافة بما كان يصنعه المنافقون، بل كانوا أضر على الإسلام من المشركين، فقتـلهم درء لمفسدة حياتـهم. ولكن المآل الآخر -وهو هـذه [ ص: 65 ] التهمة التي تبعـد الطمأنينة عن مريدي الإسـلام- أشد ضررا على الإسـلام من بقائهم» [15] .
وقد أحسن القاضي عياض بيان هـذا النظر النبوي إلى المستقبل، فقال في الحديث: «فيه ترك بعض الأمور التي يجب تغييرها؛ مخافة أن يؤدي تغييرها إلى أكثر منها... وكان النبي عليه الصلاة والسلام يستألف على الإسلام النافرين عنه، فكان يعفو عن أشياء كثيرة أول الإسلام لذلك؛ لئلا يزدادوا نفورا. وكانت العرب من حمية الأنف وإباءة الضيم حيث كانوا، فكان عليه الصلاة والسلام يستألفهم بطلاقة وجهه، ولين كلمته، وبسط المال لهم، والإغضاء عن هـناتهم حتى يتمكن الإيمان في قلوبهم، ويراهم أمثالهم فيدخل في الإسلام، ويتبعهم أتباعهم على ذلك. ولهذا لم يقتل المنافقين، ووكل أمرهم إلى ظواهرهم، مع علمه ببواطن كثير منهم، وإطلاع الله تعالى إياه على ذلك، ولما كانوا معدودين في الظاهر في جملة أنصاره وأصحابه ومن تبعه، وقاتلوا معه غيرهم حمية أو طلب دنيا أو عصبية لمن معهم من عشائرهم، وعلمت بذلك العرب فلو قتلهم لارتاب بذلك من يريد الدخول في الإسلام ونفره ذلك» [16] . [ ص: 66 ]