الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    - تحريم التطير وإباحة الفأل

                    الطيرة : هـي التشاؤم بالشيء، وأصله التطير بالسوانح والبوارح من الطير والظباء وغيرهما. ومن أمثلة هـذا التطير ما ذكره النويري ، قال: «إن خرجت فرأيت غرابا ناشرا جناحيه فنعب من فوقك فامض، وإن نعب فارجع يومك. وإن خرج من منـزله فاستقبلته جنازة فليرجع ولا يعود لحاجته؛ فإنها غير مقضية، فإن كانت الجنازة قد جاوزته فليمض لغرضه. وإن خرج فرأى بعيرا قد شرد فاجتمع عليه الناس فإن ذلك يدل على ظفره بعدوه» [1] . [ ص: 103 ] قد كان للطيرة شأن كبير في حياة الجاهليين، خصوصا في الاعتماد على الشواهد التي يدل عليها انطلاق الطيور في فضاء السماء. وهذا أمر قديم ومعروف عنهم، حتى إن الخطيب الروماني شيشرون -المتوفى سنة 43 قبل الميلاد- ذكره وأشار إليه [2] . وأكثر الطيور التي تشاءم منها أهل الجاهلية كانت: البومة، والهامة، والوطواط، وأشأمها عندهم هـو الغراب. وكانوا يسمون بالأضداد دفعا للطيرة عن الأذهان؛ كاللديغ يسمونه السليم [3] .

                    - التطير بشري

                    إن التطير طبيعة بشرية؛ لأن الإنسان -كما وصفه كتاب الله- سريع الجزع، كثير الهلع، فهو على حذر من المستقبل ويسيء الظن بما يحمله ويأتي به. ( لذلك حين سأل معاوية بن الحكم السلمي النبي الكريم عليه الصلاة والسلام عن التطير، وقال له: منا رجال يتطيرون. أجابه عليه السلام : «ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدهم ) [4] . قال ابن علان : «أي أمر خلقي بحسب الطبع لا يكلفون برفعه، إنما يكلفون ألا يعمـلوا بقضيته، كما قال: فلا يصدهم؛ أي لا يعيقهم ذلك عما خرجوا له» [5] . وقال المازري : «أي يجدون ذلك ضرورة فلا ملام عليهم فيه، ولكن إنما يكون [ ص: 104 ] اللوم على توقفهم عن إمضاء حوائجهم لأجل ذلك، وهو المكتسب، فنهاهم أن يصدهم ذلك عما أرادوا فعله» [6] .

                    وفي هـذا المعنى أيضا جاء ( عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الطيرة من الشرك وما منا، ولكن الله يذهبه بالتوكل ) [7] . أي: ما من أحد إلا ويخطر له من جهة الطيرة شيء ما؛ لتعود النفوس عليها، فحذف المستثنى كراهة أن يتلفظ به [8] .

                    - التطير والسببية

                    والتطير -من ناحية أخرى- هـو نوع من التطبيق الخاطئ لمبدأ العلاقة السببية؛ لأنه إذا سبق للمتطير أن رأى شيئا سـلبيا قارن في الزمان فعلا له؛ كسفر أو عمل أو خروج من البيت، فهو لا يعتبر ذلك اتفاقا، بل يسرع وينشئ بين الأمرين علاقة مطردة، طرفاها سبب ومسبب. لذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم حين يبطل الطيرة فهو كما يقول ابن عبد البر : «يعرفهم أن ذلك إنما هـو شيء من طريق الاتفاق؛ ليرفع عن المتوقع ما يتوقعه من ذلك كله، ويعلمه أن ذلك ليس يناله منه إلا ما كتب له» [9] . فكأن المتطير -بوعي منه أو بدون وعي- يظن أن هـذه المقارنات الاتفاقية هـي أسباب الحوادث [ ص: 105 ] وعلل الوقائع، فهو يضيف إليها -لا إلى رب الأسبـاب- ما يمسه من الضر والنفع. لهذا عد النبي عليه الصلاة والسلام الطيرة نوعا من الإشراك بالله، كما روى عنه عبد الله بن مسعود قوله في الحديث المتقدم: ( الطيرة من الشرك ) [10] . وفي رواية أبي داود أنـه كرر ذلك ثلاث مـرات [11] . قـال ابن العربي : «الطيرة زجر، وهو نوع من التعـلق بأسبـاب يزعم المتعـلق بها أنها تطلعه على الغيب، وهي كلها كفر وريب وهم يستعجله المرء إن كان حقا، ولا يقـدر على دفعه إن كان قدرا مقدورا، ولذلك جعله رسول الله من الشرك، فإنـهم يريدون أن يشـركوا الله في غيبه ويساوونه في علمه» [12] .

                    فهذه الطـيرة إما شرك حقيقي؛ وذلك في حـالة «اعتقـاد أنها تنفع أو تضر، إذا عملوا بمقتضاها معتقدين تأثيرها فهو شرك؛ لأنهم جعلوا لها أثرا في الفعل والإيجاد» [13] . وإما هـي شرك خفي إذا سلم أصل التوحيد [14] . وهذا مصداق قوله تعالى: ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) (يوسف:106) . [ ص: 106 ]

                    - كفارة الطيرة

                    وقد جعل الشارع للطيرة كفارة، فأول ذلك إمضاء العمل وعدم الالتفات إلى وساوس التطير، ( كما في الحديث: «ولكن الله يذهبه بالتوكل ) . قال الشوكاني : المعنى «أن ابن آدم إذا تطير وعرض له خاطر من التطير أذهبه الله بالتوكل، والتفويض إليه، وعدم العمل بما خطر من ذلك، فمن توكل سلم، ولم يؤاخذه الله بما عرض له من التطير» [15] .

                    فهذه الكفارة القلبية، والأخرى القولية جاءت ( في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من ردته الطيرة من حاجة فقد أشرك. قالوا: يا رسول الله، ما كفارة ذلك؟ قال: أن يقول أحدهم: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك ) [16] .

                    - الفرق بين الطيرة والفأل؛ والحكمة من اختلاف أحكامهما:

                    ولكن الإسلام حين حرم الطيرة أباح الفأل، ( فقد روى أبو هـريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا طيرة، وخيرها الفأل. قيل: يا رسول الله، وما الفأل؟ قال: الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم ) [17] . واعتبر ابن عبد البر أن هـذا أصح حديث في الباب في الإسناد والمعنى [18] . [ ص: 107 ] قال القرافي في الفرق بين التطير والفأل: « التطير : هـو الظن السيئ الكائن في القلب، والطيرة هـو الفعل المرتب على هـذا الظن من فرار أو غيره، وكلاهما حرام... أما الفأل : فهو ما يظن عنده الخير عكس الطيرة... مثل الكلمة الحسنة يسمعها الرجل من غير قصد؛ نحو يا فلاح، يا مسعود» [19] . وقال النووي : ذكر العلماء أن النبي عليه السلام «إنما أحب الفأل؛ لأن الإنسان إذا أمل فائدة الله تعالى وفضله عند سبب قوي أو ضعيف فهو على خير في الحال، وإن غلط في جهة الرجاء فالرجاء له خير، وأما إذا قطع رجاءه وأمله من الله تعالى فإن ذلك شر له، والطيرة فيها سوء الظن، وتوقع البلاء. ومن أمثال التفاؤل أن يكون له مريض فيتفاءل بما يسمعه، فيسمع من يقول: يا سالم. أو يكون طالب حاجة فيسمع من يقول: يا واجد. فيقع في قلبه رجاء البرء أو الوجدان، والله أعلم» [20] .

                    وأورد المازري فرقا آخر؛ حاصله أن للفأل منطقا ما بخلاف الطيرة، فهي غير معقولة، قال: «إن الفأل رجوع إلى قول مسموع وأمر محسوس، يحسن معناه في العقول، فيخيل للنفس وقوع مثل ذلك المعنى، ويحسن الظن بالله سبحانه، ورجاء الخير منه بأدنى سبب لا يقبح. والطيرة أخذ المعاني من أمور غير محسوسة، ولا معقولة، ولا معنى يشعر العقل بما يتوقع من ذلك، [ ص: 108 ] فلهذا فارقت الفأل، وإنها لا تقع إلا على توقع أمر مكروه، والفأل يقع على ما يحب ويكره، والمستحسن منه ما يحب» [21] .

                    ولعله اتضح الآن أن الإسلام حرم الطيرة لما فيها من التشويش على صفاء التوحيد، ولآثارها النفسية السلبية، وما تبعثه في أصحابها من التشاؤم والاكتئاب، فالطيرة اختصت «أن تستعمل في الشؤم» [22] ، بينما جوز الدين الفأل؛ لأنه يشجع على النظر إلى المستقبل نظرة أمل وتفاؤل لا خوف وتشاؤم، فمنع اليأس الذي طالما نخر الأفراد والشعوب، وحطم قدرتهم على المقاومة والنهوض؛ لذلك قال أبو العباس القرطبي تعليقا على حب الرسول للفأل: «إنما كان يعجبه الفأل؛ لأنه تنشرح له النفس، وتستبشر بقضاء الحاجة وبلوغ الأمل، فيحسـن الظن بالله عز وجل وقد ( قال الله تعالى: «أنا عند ظن عبدي بي ) [23] .

                    وإن البشرية اليوم في أمس الحاجة لهذا التوجيه النبوي، وهي الغارقة في أمراض القلق والتشاؤم والخوف من المستقبل، حتى عد ذلك مشكلة العصر [24] . [ ص: 109 ]

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية