الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    - الاستثناء في المستقبل وهو من أهم آداب المستقبلية؛ ومعنـاه أنك حين تتوقـع أمورا ما أنها ستكون فإنك -بقلبك ولسانك- تربط ذلك بمشيئة الله سبحانه، مهما كانت درجة الاستشراف وقوته، كأنك تقر بأن تدبيرك أو تدبير غيرك مرهون ومشروط بإرادة الباري التي أحاطت بكل شيء.

                    - الاستثناء في القرآن

                    كان المشركون قد سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل الكهف وذي القرنين، فوعدهم بالجواب من الغد، ولم يقل إن شاء الله، فتأخر الوحي مدة، وكان ذلك نوعا من العتاب الرمزي للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، ثم لما كان اليوم الخامس عشر نـزل الوحي ببيان الجواب عما سألوه [1] ، وأرشد الله رسوله [ ص: 149 ] إلى أدب مهم من آداب التوقع، فقال: ( ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا ) (الكهف:23-24) .

                    قال الطـبري : «هذا تأديب من الله عز ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم ، عهد إليه أن لا يجزم على ما يحـدث من الأمور أنه كائن لا محالة إلا أن يصله بمشيئة الله؛ لأنه لا يكون شيء إلا بمشيئة الله» [2] . وذكر ابن العربي : «قال علماؤنا: هـذا تأديب من الله لرسوله، أمره فيه أن يعلق كل شيء بمشيئة الله؛ إذ من دين الأمة ومن نفيس اعتقادهم: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن» [3] .

                    ويرى بعض العلماء أن لنسيان الاستثناء كفارة وتوبة، وذلك بالقول، كما أرشد إليه الله سبحانه: ( وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا ) (الكهف:24) [4] .

                    - التأدب النبوي بالتوجيه القرآني

                    وقد تعلم النبي الكريم عليه الصلاة والسلام هـذا الأدب الإلهي، وحرص عليه، وتروي لنا كتب السنة نماذج كثيرة منه؛ ففي صحيح البخاري ، حين [ ص: 150 ] ( سأل عتبان بن مالك رضي الله عنه الرسول عليه الصلاة والسلام أن يأتي ويصلي في بيته، أجابه: «سأفعل إن شاء الله ) [5] . قال الكرماني : هـذا «تعلق بمشيئة الله تعالى عملا بقوله: ( ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله ) (الكهف:23-24) ؛ وليس لمجـرد التبرك؛ إذ محل استعماله إنما هـو فيما كان مجزوما به» [6] . وعند ابن حجر : «قوله: ( سأفعل إن شاء الله. ) هـو هـنا للتعليق لا لمحض التـبرك، كذا قيل. ويجوز أن يكون للتبرك لاحتمال اطلاعه صلى الله عليه وسلم بالوحي على الجزم بأن ذلك سيقع» [7] . وفي البخاري ( كذلك أنه عليه السلام قال لأصحابه: «ننـزل غدا، إن شاء الله، بخيف بني كنانة ... ) ( ولما أراد إنهاء حصار الطائف نادى: «إنا قافلون، إن شاء الله ) [8] .

                    - الاستثناء في اليمين يمنع الحنث

                    ولذلك جوز الرسول صلى الله عليه وسلم الاستثناء من اليمـين، وأخـبر أن المستثني لا يحنث، ( فعن ابن عمر رضي الله عنهما عنه عليه السلام : «من حلف على يمين، فقال: إن شاء الله. فقد استثنى ) [9] . بل إن الاستثناء يصح حتى لو جاء منفصلا عن الحلف بيسير، فقد بوب الحافظ أبو داود : باب الاستثناء في اليمين بعد السكوت. مما أورد فيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، [ ص: 151 ] ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والله لأغزون قريشا. يكررها ثلاث مرات، ثم قال: إن شاء الله ) [10] . وفي روايات أخرى أنه سكت ثم استثنى [11] . قال الطيب آبادي : «هذه الأحاديث دليل على أن التقييد بمشيئة الله تعالى مانع من انعقاد اليمين، أو يحل انعقادها. وقد ذهب إلى ذلك جمهور العلماء، وادعى عليه ابن العربي الإجماع» [12] .

                    - الاستثناء في الإيمان

                    مما يجدر التنبيه إليه أن الاستثناء في الأيمان غير الاستثناء في الإيمان، فهما مسألتان مختلفان. الأولى هـي التي تقدمت وتتعلق بالحلف، وغالبه على المستقبل، والثانية هـي أن تقول إذا سئلت مثلا: هـل أنت مؤمن؟ أنا مؤمن إن شاء الله. فهذه موضع خلاف بين العلماء، وخلاصته، كما قال الرملي وغيره: «التحقيق في هـذه المسألة ما ذكره السعد التفتازاني وغيره أنه لا خلاف بين الفريقين في المعنى؛ لأنه إن أريد بالإيمان مجرد حصول المعنى فهو حاصل في الحال، وإن أريد ما يترتب عليه النجاة فهو في مشيئة الله تعالى، ولا قطع بحصوله في الحال. فمن قطع بالحصول أراد الأول، ومن فوض إلى مشيئة الله تعالى أراد الثاني» [13] . [ ص: 152 ]

                    - قصة النبي سليمان ودروسها

                    أعود إلى الموضوع، وأقول: إن الاستثناء في المستقبل أدب عام لم يخصه الله تعالى بنبيه وأمته، بل أرشد إليه سبحانه من سبقنا بالإيمان. فقد روى الأئمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قال سليمان بن داود نبي الله: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة، كلهن تأتي بغلام يقاتل في سبيل الله. فقال له صاحبه، أو الملك: قل: إن شاء الله. فلم يقل، ونسي. فلم تأت واحدة من نسائه إلا واحدة جاءت بشق غلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ولو قال: إن شاء الله، لم يحنث، وكان دركا له في حاجته» [14] .

                    قال النووي في كلمة (نسي) : ضبطه بعض الأئمة بضم النون وتشديد السين، وهو ظاهر حسن. (وكان دركا له) : اسم من الإدراك؛ أي: لحاقا [15] .

                    وقد ذكر ابن أبي جمـرة أن «ظاهر الحديث يدل على أن أمور الغيب لا يجوز القطع عليها في نجح ما يرجى منها إلا مع الاستثناء» [16] . ويدل الحديث كذلك على إباحة التكلم في المستقبل على سبيل الظن، قال البدر العيني : «فيه جواز الإخبار عن الشيء ووقوعه في المستقبل بناء على الظن» [17] ، [ ص: 153 ] وذلك أن سليمان عليه السلام ظن أمرا سيقع من أمور المستقبل وتكلم عنه، بل سعى إليه.

                    وها هـنا أمر نبه عليه الشراح، فقد قال ابن حجر ( في قوله عليه السلام : «ولو قال: إن شاء الله، لم يحنث، وكان دركا له في حاجته ) : «المراد أنه كان يحصل له ما طلب، ولا يلزم من إخباره صلى الله عليه وسلم بذلك في حق سليمان في هـذه القصة أن يقع ذلك لكل من استثنى في أمنيته، بل في الاستثناء رجو الوقوع وفي ترك الاستثناء خشية عدم الوقوع» [18] . وقال العيني : «فيه أن من قال: إن شاء الله. وتبرأ من مشيئتـه، ولم يعط الحظ لنفسه في أعماله فهو حري أن يبلغ أمـله ويعطى أمنيته، وليس كل من قال قولا ولم يستثن فيه المشيئة واجب أن لا يبلغ أمله، بل منهم من شاء الله بإتمام أمله ومنهم من يشاء أن لا يتمه بما سبق في علمه» [19] .

                    وقد اجتهد العلماء في تعليل هـذا التوجيه الإلهي والكشف عن بعض من حكمته؛ فمن ذلك أن الشيخ ابن أبي جمرة قال: يحتاج المرء أن يحضر أدب الشريعة في الحال والماضي والمستقبل، مع تحقيق التعلق بالوحدانية والتوكل عليها والاعتماد على الفضل والمن إن أراد نجح سعيه. وقد نبه عز وجل على هـذه الأحوال الثلاث في كتابه، فقال في الماضي: ( وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا ) (الكهف:24) ، وقال في الحال: [ ص: 154 ] ( إياك نعبد وإياك نستعين ) (الفاتحـة:5) ،

                    وقـال في المستقبـل: ( ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله ) (الكهف:23-24) .

                    فهذه الأحوال الثلاثة من طريق الاعتقاد ومن طريق التصرف في المحسوس على مقتضى الشريعة في الأمر الذي يكون التصرف فيه بصدق وتصديق، فمن وفق لذلك فقد كملت له دائرة السعادة، ونجح سعيه في الدنيا والآخرة» [20] .

                    ومن أحسن من تحـدث في حكمـة الاستثنـاء القاضي أبو بكر ، قال: «قال قوم: أي فائدة لهذا الاستثناء وهو حقيق واقع لا محالة؛ لأن الدليـل قد قام، وكل أحـد قد علم بأن ما شـاء الله كان؟ قلنا: عنه أربعة أجوبة: الأول: أنه تعبد من الله، فامتثاله واجب؛ لالتزام النبي صلى الله عليه وسلم وانقياده إليه، ومواظبتـه عليه. الثـاني: أن المرء قد اشتمل عقده على أنه إن شاء الله كان ما وعد بفعله أو تركه، واتصـل بكلامه في ضميره، فينبغي أن يتصل ذلك من قوله في كلامه بلسـانه؛ حتى ينتظم اللسان والقلب على طريقة واحدة. الثالث: أنه شعـار أهل السنة، فتعين الإجهار به؛ ليميز من أهل البدعة. الرابع : أن فيه التنبيه على ما يطرأ في العواقب بدفع أو تأت، ورفع الإيهام المتوقع بقطع العقل المطلق في الاستغناء عن مشيئة الله سبحانه» [21] . [ ص: 155 ] ويقول سيد قطب : «إن كل حركة وكل نأمة، بل كل نفس من أنفاس الحي مرهون بإرادة الله، وسجف الغيب مسبل يحجب ما وراء اللحظة الحاضرة؛ وعين الإنسان لا تمتد إلى ما وراء الستر المسدل؛ وعقله مهما علم قاصر كليل فلا يقل الإنسان إني فاعل ذلك غدا. وغدا في غيب الله، وأستار غيب الله دون العواقب. وليس معنى هـذا أن يقعد الإنسان لا يفكر في أمر المستقبل ولا يدبر له، وأن يعيش يوما بيوم، ولحظة بلحظة، وألا يصل ماضي حياته بحاضره وقابله... كلا، ولكن معناه أن يحسب حساب الغيب وحساب المشيئة التي تدبره، وأن يعزم ما يعزم ويستعين بمشيئة الله على ما يعزم، ويستشعر أن يد الله فوق يده، فلا يستبعد أن يكون لله تدبير غير تدبيره. فإن وفقه الله إلى ما اعتزم فبها، وإن جرت مشيئة الله بغير ما دبر لم يحزن ولم ييأس... ولن يدعو هـذا إلى كسل أو تراخ، أو ضعف أو فتور، بل على العكس يمده بالثقة والقوة والاطمئنان والعزيمة. فإذا انكشف ستر الغيب عن تدبير لله غير تدبيره، فليتقبل قضاء الله بالرضى والطمأنينة والاستسلام» [22] .

                    - تخريج الحكم الفقهي للاستثناء المتكرر في المستقبل

                    لكن هـل هـذا معناه أن على المسلم أن يستثني بالمشيئة في كل أحواله وجميع كلامه وكتابته؟ هـذا سؤال وجيه، خصوصا إذا علمنا أن الحديث عن المستقبل والبحث في التوقعات هـما محور ما يعرف بـ: «الدراسات [ ص: 156 ] المستقبلية»؛ بمعنى أن المتخصص المسلم في هـذا الحقل يضطر إلى استعمال صيغة الزمان المستقبل بكثرة، بحرف السين أو بدونه، مثل: سيقع كذا، سيحدث كذا، أو يتوقع كذا، أو ينتظر كذا... إلخ. فلو كان عليه أن يستثني في كل مرة لكثر ذلك جدا.

                    والذي أراه لحل هـذا الإشـكال هـو أن ينبه الباحث أو الكاتب -في مجال المستقبل- على الاستثناء بضع مرات، وفي غيرها يجوز له إطلاق التوقعات بدون تعليقها اللفـظي على المشيئـة الإلهية؛ أقول مثلا: يجب على الإعلامي أو الصحـفي الذي يقـدم النشرة الجـوية أن يذكر الاستثناء ولو مرة واحدة، والأحسن في بداية النشرة أو نهايتها حتى يربط الاستثناء بـها جميعا، وبعـد هـذه المرة لا عليه إن لم يستثن، إن شاء الله. ولي في هـذا أدلة ثلاثة:

                    الأول: رفع الحرج، وهذا أصل شرعي عظيم، وتكرار الاستثناء فيه مشقة، بل إذا كثر في كلام قليل بان فيه التكلف ولم يكن جزلا.

                    الثاني: الأصل في الاستثناء الندب لا الوجوب؛ لذلك اعتبر الرازي تركه تركا للأولى والأفضل، بل قال: إن التلفظ بهذه الكلمة مندوب في عمل يراد تحصيله [23] .

                    وقال النووي في تعليقه على حديث سليمان النبي: «يستحب للإنسان إذا قال سأفعل كذا. أن يقول: إن شاء الله؛ لقوله تعالى: [ ص: 157 ] ( ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله ) (الكهف:23-24) ؛ ولهذا الحديث» [24] .

                    الثالث: القياس على الرأي الفقهي القاضي بعدم وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كلما جرى ذكره، وهذه مسألة خلافية؛ فإن بعض العلماء أوجب التصلية في كل مرة، ومنهم من أوجبها مرة في المجلس... وآخرون قالوا: تجب مرة في العمر، وما زاد فهو مستحب [25] .

                    لكن -فيما يبدو لي- لا يجوز ترك هـذا الأدب باطراد حتى يكون عادة، فإنه يسقط في معارضة هـذه النصوص من القرآن والسنة التي تقدمت. فأقول على طريقة الشاطبي في الموافقات: الاستثناء بالمشيئة مندوب بالجزء، واجب بالكل.

                    - الاستثناء في المستقبل لا الماضي

                    سئل ابن تيمية عن قوم يقولون: المشيئة مشيئة الله في الماضي والمستقبل. فأجاب بأنه لم يجئ في الكتاب والسنة استثناء في الماضي، بل في المستقبل، ولم ينقل ذلك عن أحد من علماء الإسلام، فمن قال مثلا: إن الله خلق السموات إن شاء. فقد أخطأ. أما الاستثناء في الإيمـان والأيمان، فهذا كله كما يقول ابن تيمية: «استثناء في أفعال لم يعلم وقوعها على الوجه المأمور المقبول، فهو استثناء فيمـا لم تعلم حقيقته، أو في مستقبل علق [ ص: 158 ] بمشيئة الله؛ ليبين أن الأمور كلها بمشيئة الله. أما الاستثناء في ماض معلوم فهذه بدعة بخلاف العقل والدين» [26] .

                    - الاستخارة

                    لما ألغى الدين طرق التنبؤ الفاسدة؛ كالتنجيم والاستقسام... وحرم أيضا التعلق بالطيرة، فإنه فتح للناس أبوابا أخرى، منها الاستخارة [27] ؛ وهي طلب الخيرة في الأمور منه تعالى، وحقيقتها تفويض الاختيار إليه سبحانه [28] . قال رشيد رضا : «لما كانت الدلائل والبينات تتعارض في بعض الأمور، والترجيح بينها يتعذر في بعض الأحيان، فـيريد الإنسـان الشيء فلا يستبين له الإقدام عليه خير أم تركه، فيقع في الحيرة، جعلت له السنة مخرجا من ذلك بالاستخارة حتى لا يضطرب عليه أمره ولا تطول غمته... وهي عبارة عن التوجه إلى الله عز وجل والالتجاء إليه بالصلاة والدعاء، بأن يزيل الحيرة ويهيئ وييسر للمستخير الخير، وجدير هـذا بأن يشرح الصـدر لما هـو خير الأمرين، وهذا هـو اللائق بأهل التوحيد أن يأخذوا بالبينة والدليل الذي جعله الله تعالى مبينا للخير والحق، فإن اشتبه على أحدهم أمر التجأ إلى الله تعالى، فإذا شرح صدره لشيء أمضاه وخرج به من حيرته» [29] . [ ص: 159 ] إن الاستخارة تتعلق بالمستقبل، فهو سبب التردد والحيرة، لذلك جاء في دعائها: ( اللهم إن كنت تعلم أن هـذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي ) [30] . والعاقبة هـي المستقبل؛ سواء تعلق بالدين أم بالدنيا. ( وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أمرا قال: «اللهم خر لي واختر لي ) [31] . ( وروي عنه أنه قال: «ما خاب من استخار ) [32] . ( وقال صلى الله عليه وسلم أيضا: «من سعادة ابن آدم استخارته الله... ومن شقوة ابن آدم تركه استخارة الله ) [33] .

                    وظاهر النصوص أن الاستخـارة تكون في جميـع الأمور. لكن قال ابن أبي جمـرة : هـو عام أريـد به الخصـوص، فـإن الواجب والمستحب لا يستخار في فعلهما، والحرام والمكروه لا يستخار في تركهما، فانحصر الأمر في المباح وفي المستحب إذا تعارض منه أمران أيهما يبدأ به ويقتصر عليه [34] .

                    وعلق على ذلك ابن حجر بقوله: «وتدخل الاستخارة فيما عدا ذلك في الواجب والمستحب المخير، وفيما كان زمنه موسعا. ويتناول العموم العظيم من الأمور والحقير، فرب حقير يترتب عليه الأمر العظيم» [35] . لكنني لست أرى أن من الفقه غلو المرء في الاستخارة، بحيث يكثر منها جدا، فهي [ ص: 160 ] تكون عقـب التردد، وبعد كد النظر واستيفـاء الأسباب، لا قبل ذلك، وإلا أشبهت التواكل. هـذا في الصلاة، أما بالذكر والدعاء فلا شك في استحبابهما على الدوام، ما داما مقارنين للعمل والسعي.

                    وإذا أحدث الله تعالى في قلب المستخير انشراحا، فالظاهر جواز الإقدام. أما إذا لم يجد المرء من نفسه جنوحا لشيء، فهاهنا مسألة قلما ذكرها أهل العلم، تكلم فيها الشيخ الميرتهي بكلام نفيس، خلاصته: إن العبد يفعل كما يشاء، والله تعالى يقدره ويكونه خيرا [36] .

                    - حكم التوقعات المسجوعة

                    كان للعرب -بما لهم من عناية بالبيان والفصاحة- حب للسجع وتذوق له. واشتهر عن كهنتهم استعماله، حتى كادوا لا يتكلمون إلا به. يقول ابن عاشور : كانوا «لا يصدرون إلا كلاما مجملا موجها قابلا للتأويل بعدة احتمالات، بحيث لا يؤخذون بالتكذيب الصريح... وهم بحيلتهم واطلاعهم على ميادين النفوس ومؤثراتها التزموا أن يصوغوا كلامهم الذي يخبرون به في صيغة خاصة ملتزما فيها فقرات قصيرة مختتمة بأسجاع؛ لأن الناس يحسبون مزاوجة الفقرة لأختها دليلا على مصادفتها الحق والواقع، وأنها أمارة صدق» [37] . [ ص: 161 ] لهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يكره الإكثار من السجع وتكلفه، خاصة إذا جاء في معارضة حق، وقد روى أبو هـريرة رضي الله عنه ( أنه حين اقتتلت امرأتان من هـذيل ، فأسقطت إحداهما جنين الأخرى وقضى فيه عليه السلام بدية غرة ، قام أحد الأوليـاء، وقال: كيف أغرم يا رسول الله من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يطل؟ فقال النبي الكريم: «إنما هـذا من إخوان الكهان» [38] . قال الراوي: من أجل سجعه الذي سجع. ) ( وفي رواية: «أسجع كسجع الجاهلية وكهانتها ) [39] . وشرحه القرطبي : «يعني بذلك أنه تشبه بالكهان فسجع كما يسجعون حين يخبرون عن المغيبات، كما قد ذكر ابن إسحاق من سجع شق وسطيح وغيرهما. وهي عادة مستمرة في الكهان» [40] .

                    وذكرت في مؤاخذة النبي عليه السلام للمتكلم وجوه مختلفة، لعلها متكاملة: قيل لأنه سجع فتشبه بالكهان. وقيل: بل لأنه تكلفه ولم يجئ عفوا. وقيل: فيه ذم التشبه بالكفار في ألفاظهم. وقيل: لأنه خطاب جاء في معارضة النبوة وحكمها [41] .

                    لهذا فإن الحديث لا يدل على كراهة السجع لوحده؛ أعني: مطلقا؛ إذ نقل الرواة عن النبي الكريم جملا مسجعة، ليست كثيرة؛ لأن السجع [ ص: 162 ] كالشعر، كلاهما لا يليق بالنبوة، ولكنها موجودة ومعدودة. ( فمن دعائه عليه السلام : «آيبون تائبون، عابدون ساجدون، لربنا حامدون. صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده ) [42] . وقد استنبط منه القاضي عياض : «جواز السجع في الدعاء والكلام إذا كان بغير تكلف. وإن ما نهي عنه من ذلك ما كان باستعمال وبروية؛ لأنه يشغل عن الإخلاص، ويقدح في النية. وأما ما سـاقه الطبع وقذف به قوة الخـاطر دون تكلف ولا استعمال يباح في كل شيء» [43] .

                    لهذا استخرج الحافظ أن السجع أربعة أنواع: المحمود؛ وهو ما جاء عفوا في حق. ودونه ما يقع متكلفا في حق أيضا. والمذموم عكسهما [44] .

                    والراجح عندي أنه في مجال التوقعات المستقبلية -خاصة- ينبغي أن يكون السجع مكروها، فهذا أقل ما يجب فيه، حتى لو كانت هـذه التوقعات صحيحة، أعني قائمة على منهج علمي سليم؛ كالتوقعات الفلكية أو الاقتصادية. وذلك لأن السجع ارتبط عبر التاريخ بالكهانة، حتى إن أكثر من كان يتنبأ استعمل السجع أو الشعر. ولم يكن هـذا في العرب وحدهم، فالكهنة اليونان أيضا كانوا يسجعون، وفي العصر الحديث اشتهر نوستراداموس بنبوءاته المقفاة. وقد سبق لي أن درست موضوع الكهانة [ ص: 163 ] باستفـاضة [45] ، لذلك أفهم جيدا كراهية الرسـول الكريم صلى الله عليه وسلم لهذا السجع، وهو الذي نـزل فيه قوله عز من قائل:

                    ( إنه لقول رسول كريم وما هـو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون ) (الحاقة:40-42) .

                    وهذا ما فهمه بعض الصحابة " فابن عباس رضي الله عنهما حين حدث عكرمة ونصحه كيف يفعل في حديثه ودرسه مع الناس... كان من جملة ما قال له: فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه، فانظر السجع من الدعاء فاجتنبه، فإني عهدت رسـول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك. " يعني: إلا ذلك الاجتناب. لهذا بوب البخاري : «باب ما يكره من السجع في الدعاء» [46] . قال ابن حجر : «أي: لا تقصد إليه، ولا تشغل فكرك به لما فيه من التكلف المانع للخشوع المطلوب في الدعاء» [47] .

                    والخلاصة: إن من الآداب المطلوبة من المستقبلي المسلم، أو العالم المسلم الذي يشتغل في علوم التوقع تجنب السجع وتكلفه، إلا إذا كان قليلا وجاء عفويا، فإن النادر لا حكم له. [ ص: 164 ]

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية