الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    القـدر والمستقبل

                    القدر: مشكلة نظرية وعملية

                    هذا إشكال كبير، وله آثار مهمة وواسعة على السلوك البشري المتعلق بالمستقبل، وفيه جانبان:

                    الأول: نظري أو علمي، وقد أشار كثير من العلماء لصعوبة قضية القضاء والقدر، يقول ابن رشد : «هذه المسألة من أعوص المسائل الشرعية؛ وذلك أنه إذا تؤملت دلائل السمع في ذلك وجدت متعارضة، وكذلك حجج العقول. أما تعارض أدلة السمع في ذلك فموجود في الكتاب والسنة» [1] . [ ص: 67 ] الثاني: عملي، إذ أخطر ما في هـذه العقيدة -إذا فهمت خطأ- أنها توحي بالعجز والكسل والاستسلام، حـتى إن بعض المستشرقين اعتبر أن من أسباب تخلف المسلمين الإسلام نفسه بـ «تقييده في السير في هـذه الحياة طبقا لعقيدة الجبر فيه» [2] . وبالطبع لا علاقة للدين بهذا، لكننا نعترف بأنه كان لأفكار الجبر انتشار ووجود بين المسلمين في القرون الأخيرة، حتى اشتكى من ذلك كثير من زعماء الإصلاح، فهذا جمال الدين الأفغاني يتحدث عن بعض الجبريين من المسلمين، فهم «أقوام بلباس الدين... أبدعوا فيه وخلطوا بأصوله ما ليس منها، فانتشرت قواعد الجبر وضربت في الأذهان حتى اخترقتها، وامتزجت بالنفوس حتى أمسكت بعنانها عن الأعمال» [3] .

                    - الإشكال عام في الفكر البشري

                    والحقيقة أن مشكلة القدر ليست خاصة بالفكر الإسلامي، فجميع الأديان والفلسفات تعرف الإشكال [4] . ويعتبره « هـيوم » -أبو الشكية الحديثة- أصعب مسألة في أصعب علم، يعني: الميتافيزيقيا [5] . وأحيانا تناول [ ص: 68 ] الفكر الأوربي -الديني والفلسفي- الموضوع تحت مسميات أخرى أهمها: الحرية ، وأصل الشر [6] . ويعتقد كلا من « هـيوم » و « فولتير » -وغيرهما كثير- أن بحث مشـكلة الشر أمر يتجـاوز العقل الإنساني ويفوق قدراته؛ لذلك لا يمكن حل الإشكال بل ولا فهمه [7] .

                    - سـر القـدر

                    وما صعوبة بحث القـدر وعسـر فهم حقيقته -وربما استحالة ذلك في الدنيا- إلا مظـهر من مظاهر إخفاء الله سبحانه له، وهذا ما يعرف بـ: سر القدر. يقول أبو المظفر ابن السمعـاني : «القدر سر من أسرار الله تعالى، اختص العليم الخبيـر به، وضرب دونه الأستـار، وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم؛ لما علمه من الحكمة، فلم يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب. وقيل: إن سر القدر ينكشـف لهم إذا دخلوا الجنة ولا ينكشف لهم قبل دخـولها» [8] . وكذلك قال الطحاوي في عقيدته: «أصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطـلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل. والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، [ ص: 69 ] فالحذر كل الحذر من ذلك نظرا وفكرا ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال تعالى في كتابه:

                    ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) (الأنبياء:23) .

                    فمن سأل: لم؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين» [9] .

                    - النهي عن الخوض في القدر

                    وأصل هـذا التوجيه العقدي المهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد قال: ( إذا ذكر القدر فأمسكوا ) [10] .

                    وروى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي الكريم عليه الصلاة والسلام نهى عن إفشاء سر القدر [11] . ( وعن أبي هـريرة رضي الله عنه رفعه: «أخر الكلام في القدر لشرار أمتي ) [12] . ( ويروى أيضا: «إن أمر هـذه الأمة لا يزال مقاربا حتى يتكلموا في الولدان وفي القدر ) [13] . قال ابن رجب : [ ص: 70 ] النهي عن الخوض في القدر يكون على وجوه، منها:

                    1 - ضرب كتاب الله بعضه ببعض، فينـزع المثبت للقدر بآية والنافي له بأخرى.

                    2 - الخوض في القدر إثباتا ونفيا بالأقيسة العقلية.

                    3 - الخوض في سر القـدر. وقد ورد النهي عنه عن علي وغيره، فإن العباد لا يطلعون على حقيقته [14] .

                    إذن فلا سبيل للاطلاع على سر القـدر، لكن العلمـاء اضطروا -لما ثارت شبه الاعتزال والجبر- إلى الكـلام في القـدر بصفـة عامة، دون الخوض في دقائقه؛ وذلك لرد الناس إلى الاعتقاد السليم. وكانت غايتهم إنقـاذ الاعتقاد بالتوحـيد بإثبات أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وإنقـاذ العمل بإثبات أن الإنسـان مسئول عن أفعاله وهو من يختارها [15] .

                    - عقيدة القضاء والقدر ونظام السببية في الوجود:

                    هذه العقيدة ثابتة بالكتاب والسنة، ولكنها أصرح ما تكون وأوضح في أحاديث نبوية كثيرة، حتى إن دواوين عديدة في السنة خصصت كتابا لما جاء في هـذا الباب، ومنها الكتب الستة. والذين [ ص: 71 ] أنكروا القدر حاولوا إما رد بعض هـذه الأحـاديث، وأنى لهم ذلك مع صحتها وكثرتها، وأما تأويلها، وهذا لا يمـكن طرده في جميعها. لهذا قال أحمد القرطبي : «الأحاديث في هـذا الباب كثيرة صحيحة، يفيد مجموعها العلم القطعي واليقـين الحقيقي الاضـطراري بإبطال مذاهب القدرية ، لكنهم كابروا في ذلك كـله وردوه، وتأولوا ذلك تأويلا فاسدا» [16] . وأنا أذكر بعضها:

                    - ( عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ) [17] . فهذه الكتابة هـي من عالم الغيب، وهي عبارة عن سبق علم الله بالأشياء قبل وقوعها [18] . ( وقال عليه الصلاة والسلام : «ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة. قالوا: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا، وندع العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له ) [19] .

                    هذه قاعدة أهل السنـة في الموضوع: الأقدار حق، والأسباب حق أيضا. وبعض الناس يغلب عليهم شهود الحق الأول فقط، وفيهم يقول [ ص: 72 ] الشيخ مرعي الحنبلي : «من شهد هـذا المشهد فشهوده حق، لكن وراء هـذا المشهد مشهد آخر، وهو أن يشهد المقادير مقدرة بأسبابها؛ لأنه يشهدها مجردة عن الأسباب، فإنه إن شهد ذلك كان شهوده ناقصـا أعمى، وينشأ له الغلط من أن الأعمال لا تنفع وأن الأسـباب لا تفيد، وهو قول مبني على أصل فاسـد... فإن الله تعـالى أجرى عادته الإلهية في هـذا العـالم على أسباب ومسببات تناط بتلك الأسباب، وينسب أيضا وقوعها إليها نظرا للصورة الوجودية، وإن كان الكل في الحقيقة بقضائه وقدره باعتبار الحقيقة الإيجادية. وقد سـئل النبي صلى الله عليه وسلم عن إسقـاط الأسبـاب نظرا إلى القضـاء والقدر السابق ( فرد عليه السلام : لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له ) [20] .

                    إن الإشـكال في القـدر يكمن في التوفيق بين فعل الله تعالى في الوجود وبين أفعال الإنسـان. فالجـبرية مثـلا قالوا: ليس للإنسان اختيار، وأعماله من خلق الله. والمعتزلة ذكروا أن الإنسان هـو الذي يخلق أفعاله. أما الأشاعرة فقد راموا التوسط بين المذهبين، فقالوا: إن الله خلق أفعال العباد جميعا، فخالفوا الاعتزال، ثم أثبتوا للعبد قدرة سموها: الكسب ، فانفصلوا عن الجبر. غير أنهم لـم يعتبروها قدرة مؤثرة. وهذا مذهب [ ص: 73 ] بتأثير قدرة العبد -هذه القدرة حسـن- فإن أهل السنة -كما يقول الطحاوي - وسط «بين الغلو والتقصـير، وبين التشبيـه والتعطـيل، وبين الجـبر والقـدر، وبين الأمن والإياس» [21] .

                    لكن فيه ضعـفا؛ لأنه بتقرير قـدرة لا تؤثر كأنه جعـل منها صورة لا حقيقة لها. لذلك يقول رشيد رضا : «مذهب أهل الأثر، وهم أئمة السنة، وبعض محققي الأشاعرة كإمام الحرمين: أن قدرة العبد مؤثرة في عمله كتأثير سائر الأسباب في المسببات بمشيئة الله، الذي ربط بعضها ببعض، كما هـو ثابت بالحس والوجدان والقرآن» [22] .

                    ولعلك تقول: لو أثبتنا للعبد قدرة مؤثرة لزم الشرك، وإلا لزم الجبر؛ وهذا لأن التأثير -كما يقول ابن تيمية - لفظ مجمل [23] ، والتحقيق كما بين بنفسه أن: « التأثير اسم مشترك، قد يراد بالتأثير الانفراد بالابتداع والتوحيد بالاختراع. فإن أريد بتأثير قدرة العبد هـذه القدرة فحاشا لله لم يقله سني، وإنما هـو المعزو إلى أهل الضلال. وإن أريد بالتأثير نوع معاونة إما في صفة من صفات الفعل، أو في وجه من وجوهه، كما قاله كثير من متكلمي أهل الإثبات فهو باطل أيضا... إذ لا فرق بين إضافة الانفراد بالتأثير إلى غير الله [ ص: 74 ] سبحانه في ذرة أو فيل... وإن أريد بالتأثير أن خروج الفعل من العدم إلى الوجود كان بتوسط القدرة المحدثة؛ بمعنى أن القدرة المخلوقة هـي سبب وواسطة في خلق الله سبحانه وتعالى الفعل بهذه القدرة، كما خلق النبات بالماء وكما خلق الغيث بالسحاب، وكما خلق جميع المسببات والمخلوقات بوسائط وأسباب فهذا حق، وهذا شأن جميع الأسباب والمسببات. وليس إضافة التأثير بهذا التفسير إلى قدرة العبد شركا؛ وإلا فيكون إثبات جميع الأسباب شركا، وقد قال الحكيم الخبير:

                    ( فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات ) (الأعراف:57) ،

                    ( فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ) (النمل:60) ،

                    وقال تعالى: ( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ) (التوبة:14) »

                    [24] .

                    إذن لا غنى عن إثبات الأسباب والقول بسببية حقيقية لا عادية، وموضوع القدر وثيق الصلة بالعلية أو بالعلاقة السببية. وكنت قد درستها وبحثتها منذ سنين، وذلك في مجال الطبيعة أساسا، فظهر لي أن مشكلة السببية الطبيعية عويصة، لكنني أميل الآن إلى القول: إن قانون العلية حقيقي، وأن للأشياء فعلا وتأثيرا بعضها في بعض، ولا مانع من تسمية ذلك: طبائع؛ لأن الذي يميزنا -نحن المسلمين- عن الفلاسفة الطبائعيين هـو أننا لا نقول بسببية مستقلة، يقول مرعي الكرمي : «ليس في الوجود سبب [ ص: 75 ] يستقل بحكم، بل كل سبب فهو مفتقر إلى أمور أخر... وله موانع وعوائق تمنع موجبه، وما ثم سبب مستقل بنفسه إلا مشيئة الله وحده» [25] . ولو اطلع القارئ الكريم على كتابي: «الوجود بين مبدئي السببية والنظام»، لوجد فيه تفصيلا حسنا لهذه القضايا [26] .

                    وحـين أقـول: الأولـى الأخذ بمذهب أهل السنة والجويني ؛ فنثبت سببية حقيقية في العوالم الثلاثة: الإنسان والحيوان والجماد. فنقول مثلا بقدرة مؤثرة يملكها العبد، فلست في ذلك أدعي -كما يفعل بعضهم- أن هـذا المذهب سـالـم من كل نقـاش وخـال من جميع المعارضة، وغيره تخبطات وأغاليط، بل أقول: إنه أقوى المذاهب وأنسبها في العمل، وأكثرها توفيقا بين ظـواهر النصوص وأحـكام العقل ومعطيات التجربة؛ ذلك أنه لا يوجـد رأي في القـدر لا يمـكن معارضته بحجج من المنقول والمعقـول، ولا سبيـل إلى الجـواب الشـافي عن كل الأسئـلة والرد على جميـع الاعتراضـات، فإن القدرة على ذلك معناها معرفـة أصـل القدر، وهيهات أن نصـل لذلك، ونحن ما زلنا نجهل أصل الحجر. [ ص: 76 ]

                    - التخطيط والإعداد والعلاج، وسائر الأسباب من القدر

                    فهي ليست خارجة عنه، فالقدر يحيط بالإنسان، لا مفر منه، ولذلك رأى بعض العلماء أن القدر ليس شيئا آخر غير نظام الأسباب والمسببات، الذي عليه أقام الله تعالى الوجود، يقول الشيخ محمود : «القضاء والقدر الذي أوجب الله الإيمان به ليس معناه أن الله يلزم الناس بما قدره وقضاه عليهم، فقد جعل الله لهذه المقادير أسبابا تدفعها وترفعها من الدعاء، والصدقة، والأدوية، وأخذ الحذر، واستعمال الحـزم، وفعل أولي الـعزم، وسائر ما يلزم، إذ الكل من قضاء الله وقدره، حتى العجز والكيس» [27] .

                    وقد بين الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام هـذا المعنى في مغالبة القـدر بالقـدر أحسن بيان وأبلغه، ( فقد سأله أبو خزامة رضي الله عنه : يا رسول الله، أرأيت رقى نسترقيها، ودواء نتداوى به، وتقاة نتقيها، هـل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: «هي من قدر الله ) [28] .

                    ولابن القيم كلمة قيمة في معنى مغالبة القدر بمثله، قال: «وراكب هـذا البحر في سفينة الأمر وظيفته: مصادمة أمواج القدر، ومعارضتها بعضها ببعض، وإلا هـلك، فيرد القدر بالقدر. وهذا سير أرباب العزائم من العارفين. وهو معنى قول الشيخ العارف القدوة عبد القادر الكيلاني : «الناس إذا وصلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، إلا أنا. فانفتحت لي فيه روزنة [ ص: 77 ] فنازعت أقدار الحق بالحق للحق. والرجل من يكون منازعا للقدر، لا من يكون مستسلما مع القدر». ولا تتم مصالح العباد في معاشهم إلا بدفع الأقدار بعضها ببعض، فكيف في معادهم؟ والله تعـالى أمر أن ندفع السيئة -وهي من قدره- بالحسنة، وهي من قدره. وكذلك الجوع من قدره، وأمر بدفعه بالأكل الذي هـو من قدره. ولو استسلم العبد لقدر الجوع مع قدرته على دفعه بقدر الأكل حتى مات، مات عاصيا. وكذلك البرد والحر والعطش كلها من أقداره، وأمر بدفعها بأقدار تضادها، والدافع والمدفوع والدفع من قدره» [29]

                    - القدر الآتي:

                    وقد ذكر ابن تيمية أن تعلق العلم بالماضي والمستقبل سواء؛ فمن أخبر عن الماضي وعن وقوعه -أو وقوع حدث فيه- بدون الأسباب يكون مخطـئا. كذلك من يريد أن يخـبر عن المستقبـل، وأن شيئا منه يكون بلا أسباب يكون مبطلا. فلا بد من نظام الأسباب، غاية الأمر أن أكثرها معتاد، وبعضها غريب [30] . لذلك يجب على الإنسان أن يدفع القدر القادم الذي يتوقعه ولا يناسبه بقدر أفضل له. أما القدر الماضي فيزيله بقدر جديد. يقول ابن القيم : «دفع القدر بالقدر نوعان؛ أحدهما: دفع القدر [ ص: 78 ] الذي انعقدت أسبابه -ولما يقع- بأسباب أخرى من القدر تقابله، فيمتنع وقوعه؛ كدفع العدو بقتاله، ودفع الحر والبرد ونحوه. الثاني: دفع القدر الذي وقع واستقر بقدر يرفعه ويزيله؛ كدفع قدر المرض بالتداوي، ودفع الذنب بقدر التوبة، ودفع الإساءة بقدر الإحسان» [31] .

                    - حديث احتجاج آدم بالقدر:

                    لكن قد يعكر على ما سبق ما يفهمـه بعض الناس خطأ من قصة محاجة آدم لموسى عليه السلام : روى الأئمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( احتج آدم وموسى : فقال موسى: يا آدم، أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة. فقال له آدم: أنت موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده، أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فحج آدم موسى ) [32] .

                    لذلك فإن بعض المسلمين يتعلق بالحديث ويظنه دليلا على صحة الاعتذار عن ذنوبه بالقدر السابق.

                    ويجدر بي أن أذكر شيئا؛ وهو أن الاحتجاج بالقدر لا يكون فقط في حالة المعصية، بل أيضا في أحوال الخطأ، والنسيان، والعجز، والكسل، والفشل، والتخبط، وترك الإعداد والعمل... ونحو ذلك، حتى إن بعض [ ص: 79 ] المسـلمين يعتذرون اليوم عما هـم فيه من التخلف والهوان بالقدر، وربما أضافوا لذلك أن ( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ) [33] .

                    نعود إلى الحديث، وحاصله -برواياته وألفاظه- كما قال ابن حجر : «المعنى أنه لو استمر على ترك الأكل من الشجرة لم يخرج منها، ولو استمر فيها لولد له فيها، وكان ولده سكان الجنة على الدوام. فلما وقع الإخراج فات أهل الطاعة من ولده استمرار الدوام في الجنة، وإن كانوا إليها ينتقلون، وفات أهل المعصية تأخر الكون في الجنة مدة الدنيا وما شاء الله من مدة العذاب في الآخرة، إما مؤقتا في حق الموحدين وإما مستمرا في حق الكفار فهو حرمان نسبي» [34] .

                    وقد انقسم الناس في الحديث على فرق ثلاث [35] :

                    1 - فريق كذبوا به؛ كأبي علي الجبائي وغيره؛ لأنه من المعلوم بالاضطرار أن هـذا خلاف ما جاءت به الرسل.

                    2 - فريق جعلوه عمدة في سقوط الملام عن المخالفين للشرع.

                    3 - فريق صححـوه وأولوه بتفاسير مختلفة، بعد أن أجمعـوا على أن آدم لم يحتج بالقدر على معصيته. [ ص: 80 ] والرأي الأول لا يعرج عليه، فإن الحديث صحيح، وليس من منهج أهل السنة رد الأحاديث الثابتة بـهذه البساطة. والفريق الثاني أسقط التكليف جملة. أما التأويلات فكثيرة، وبعضها ضعيف [36] ، لكن أهمها:

                    1 - قال ابن عبد البر : هـذا عندي مخصوص بآدم؛ لأن المناظرة بينهما وقعت بعد أن تاب الله على آدم قطعا، كما قال تعالى:

                    ( فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه ) (البقرة:37) ؛

                    فحسن منه أن ينكر على موسى لومه على الأكل من الشجرة؛ لأنه كان قد تيب عليه من ذلك، وإلا فلا يجوز لأحد أن يقول لمن لامه على ارتكاب معصية، كما لو قتل أو زنا أو سرق: هـذا سبق في علم الله وقدره علي قبل أن يخلقني، فليس لك أن تلومني عليه. فإن الأمة أجمعت على جواز لوم من وقع منه ذلك، بل على استحباب ذلك، كما أجمعوا على استحباب محمدة من واظب على الطاعة [37] .

                    2 - قال ابن تيمية : « آدم عليه السلام إنما حج موسى لأن موسى لامه على ما فعل لأجـل ما حصل لهم من المصيبة بسبب أكله من الشجـرة. لم يكن لومه له لأجل حق الله في الذنب. فإن آدم كان قد تاب من الذنب، كما قال تعالى: ( فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هـو التواب [ ص: 81 ] الرحيم ) (البقرة:37) ...

                    ومـوسى -ومن هـو دون موسى عليه السلام - يعلم أنه بعد التوبـة والمغفرة لا يبقى ملام على الذنب، وآدم أعلم بالله من أن يحتج بالقدر على الذنب، وموسى عليه السلام أعلم بالله تعالى من أن يقبل هـذه الحجة، فإن هـذه لو كانت حجة على الذنب لكانت حجة لإبليس عدو آدم، وحجة لفرعون عدو موسى، وحجة لكل كافر وفاجر، وبطل أمر الله ونهيه، بل إنـما كان القدر حجة لآدم على موسى؛ لأنه لام غيره لأجل المصيبـة التي حصلت له بفعل ذلك، وتلك المصيبة كانت مكتوبة عليه» [38] .

                    إذن ظاهر الحديث غير مراد، ولذلك لا يقبل الناس الاحتجاج بالقدر في معاملاتهم اليومية، ولا يرضون لمن أخذ مالهم أو أخطأ في حقهم أن يتعلل بالقدر. يقول مرعي الكرمي : «وهذا أمر جبل عليه الناس، مسلمهم وكافرهم، مقرهم بالقدر ومنكرهم، ولا يخطر ببال أحد منهم الاعتراض بمثل هـذا. فإذا كان هـذا الاعتراض معروف الفساد في بدائه العقول لم يكن لأحد أن يحتج به على الرسول» [39] .

                    ولذلك كانت قاعدة الشرع: « ذم الاحتجاج بالقدر »، « كما حين طرق الرسول الأكرم بيت فاطمة وزوجها ليصليا الفجر، فقال علي رضي الله [ ص: 82 ] عنه » ( يا رسول الله، أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا. فانصرف النبي وولى وهو يضرب فخذه ويقرأ: ( وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ) (الكهف:54 ) [40] .

                    قال ابن تيمية : «هذا الحديث نص في ذم من عارض الأمر بالقدر، فإن قوله: ( إنما أنفسنا بيد الله... ) إلى آخره استناد إلى القدر في ترك امتثال الأمر. وهي في نفسها كلمة حق، لكن لا تصلح لمعارضة الأمر، بل معارضة الأمر فيها من باب الجدل المذموم الذي قال الله فيه: ( وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ) (الكهف:54) . وهؤلاء أحد أقسام القدرية ، وقد وصفهم الله في غير هـذا الموضع بالمجادلة الباطلة» [41] .

                    - الصحابة وعقيدة القدر

                    ومما يدل على أن هـذه العقيدة العظيمة -حين تؤخذ كما أمر الله ورسوله- لا تكون عائقا للتخطيط والنظر المستقبلي، ولا للعمل والكد والاجتهاد أن الصحابة لم يكونوا جبريين متواكلين، فحياتهم كلها علم وعمل وفتح وإدارة. هـذا معروف لا يحتاج لبيان.

                    وإن عدم وجـود آثار سلبية لهذه العقيدة في حياة جيـل الصحابة ليس بسبب أنهم يجهلون الإشكال العام لموضـوع القدر. على العكس من [ ص: 83 ] ذلك تمـاما، فإن السـنة تدل على إدراك الصحابة لطـبيعة القضية ووعورتها، ( فعن أبي هـريرة رضي الله عنه ، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع في القدر، فغضب حتى احمر وجهه، حتى كأنما فقئ في وجنتيه الرمان، فقال: «أبهـذا أمرتم، أم بهـذا أرسلت إليكم؟ إنما هـلك من كان قبلكم حيـن تنازعـوا في هــذا الأمر... عزمت عليكم ألا تتنازعوا فيه ) [42] .

                    فهذا لم يمنعهم من الفعل الإيجابي في التاريخ. ولذلك نستنتـج أن عقيدة القضاء والقدر لا تضاد في شيء المستقبلية، لا في الاستشراف والتوقع، ولا في التخطيط والعمل، بل إن القدر يشير إلى أن لله تعالى نظاما صارما يسير عـليه الكون، وأن فعل الإنسان من جملة هـذا النظام وأداة من أدواته. [ ص: 84 ]

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية