الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    التخطيط الاجتماعي

                    أعنـي بالتخطيـط الاجتمـاعي : التخطيـط الذي يتعلق بالمجتمـع أو بالجمـاعة لا بالأفراد. ومن أبرز أمثـلته فكرة الحجر الصحي التي كان أول من أقرها هـو الإسـلام، وذلك حين دعا إلى نوع من الفصل بين المرضى والأصحـاء. لكن هـذا المبـدأ الاحتياطي الكبير تعارضه ظواهر بعض الأحاديث التي تنفي العدوى. لهذا سأبحث فيما يلي هـذا التعارض وكيفيات رفعه، ومنه تتضح بعض معالم التخطيط النبوي في مجال الصحة العامة بالخصوص:

                    أحاديث العدوى

                    ( عن أبي هـريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا عدوى، ولا صفر، ولا هـامة. فقال أعرابي: يا رسول الله، فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء، فيجيء البعير الأجرب فيدخل فيها فيجربها كلها؟ فقال عليه السلام : فمن أعدى الأول؟ ) [1] ( وعن أبي هـريرة أيضا أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا يوردن ممرض على مصح ) [2] . [ ص: 131 ] ( قال أبو سـلمة بن عبد الرحمن بن عـوف رضي الله عنهما : كان أبو هـريرة يحدثهما كلتيهما عن رسول الله، ثم صمت أبو هـريرة بعد ذلك عن قوله: لا عدوى. وأقام على: أن لا يورد ممرض على مصح. فقـال الحارث بن أبي ذباب وهو ابن عم أبي هـريرة: قد كنت أسمعك يا أبا هـريرة تحدثنا مع هـذا الحديث حديثا آخر قد سكت عنه، كنت تقول: قال رسـول الله: لا عدوى. فأبى أبو هـريرة أن يعرف ذلك حـتى تمـارا. قـال أبو سلمة : فلا أدري أنسي أبو هـريرة، أو نسخ أحد القولين الآخر ) [3] .

                    آراء العلماء فيها

                    وقد ذهب العلماء مذاهب شتى في رفع التعارض بين الحديثين -ونحوهما مما يشبههما- ولهم في ذلك ثلاثة مسالك رئيسة [4] .

                    أولا: مسلك النسخ:

                    ( حديث «لا يوردن ممرض على مصح ) [5] ، منسوخ ( بحديث: «لا عدوى. ) وقد قال بهذا بعض العلماء؛ من المالكية وغيرهم [6] . وأبى أكثر العلماء دعوى النسخ ، وذلك لوجوه [7] : الأول: أنه يشترط في النسخ ألا يصار إليه إلا بعد [ ص: 132 ] تعذر الجمع... وهذا ممكن كما سيأتي، «فالواجب أن يقال: إنهما خبران شرعيان عن أمرين مختلفين لا متعارضين» [8] .

                    الثاني: أنه يشترط في النسخ معرفة التاريخ وتمييز المتأخر من الخبرين، وهذا متعذر.

                    ثانيا: مسلك الترجيح

                    حديث: لا عدوى. مرجح على الآخر الذي نسيه راويـه أبو هـريرة ، وقالوا: «إن الأخبار الواردة من رواية غيره في نفي العدوى كثيرة شهيرة بخلاف الأخبار المرخصة في ذلك» [9] .

                    ورد الجمهور مذهب الترجيح هـذا، واعتبروا أن أحاديث إثبات العدوى ونفيها صحيحة كلها، فلا وجه لإسقـاط بعضها دون بعض. أما نسيان أبي هـريرة فقالوا: إنه لا يؤثر؛ لوجهين:

                    أحدهما: إن نسيان الراوي للحديث الذي رواه لا يقدح في صحته عند الجمهور، بل يجب العمل به.

                    والثاني: إن هـذا اللفظ ثبت من رواية صحابة آخرين ذكر منهم مسلـم : ابن عمر ، وأنس ، وجابر ، والسائب بن يزيد [10] . [ ص: 133 ] وأضاف ابن القيم وجها ثالثا: وهو أن الحديث رواه عن أبي هـريرة أوثق أصحابه وأحفظهم: أبو سلمة المذكور، وابن سـيرين ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، والحارث بن أبي ذباب [11] .

                    واستنبط القرطبي من سكوت أبي هـريرة وجوها أخرى، ليس النسيان إلا إحداها [12] .

                    ثالثا: مسلك الجمع

                    كلا الحديثين -وما في معناهما- صحيح، قال النووي : إن تصحيح الحديثين والجمع بينهما هـو الصواب الذي عليه جمهور العلماء [13] . ثم اختلفوا في طريقة الجمع على آراء، هـذه أبرزها:

                    1 - لا عدوى؛ إما نهي عن اعتقادها، أو إخبار بأنها لا تقع بطبعها. ومقصود الحديث حفظ العقيدة وتحقيق صفاء التوحيد. ولذلك نهى عليه الصلاة والسلام عن «إيراد الممرض على المصح؛ مخافة الوقوع فيما وقع فيه أهل الجاهلية من اعتقاد ذلك» [14] ؛ لأنه إذا جاء صاحب الإبل الصحاح وأدخلها على الإبل المراض فربما قدر الله تعالى أن تسقم الصحيحة بفعله وسنته لا بالعدوى، فيحصل لصاحبها اعتقاد العدوى بطبعها، ويتوهم صحة [ ص: 134 ] ما أبطلـه النبي الكريـم عليه الصلاة والسلام فيدخل على عقيدته فساد عظيم [15] .

                    2 - حديث لا عدوى على ظاهره، والنهي عن إيراد المريض على الصحيح هـو من باب سد الذرائع [16] . قال أحمد القرطبي : وذلك «مخافة تشويش النفوس، وتأثير الأوهام، وهذا كنحو أمره صلى الله عليه وسلم بالفرار من المجذوم، فإنا وإن كنا نعتقد أن الجذام لا يعدي، فإنا نجد من أنفسنا نفرة، وكراهية لذلك، حتى إذا أكره الإنسان نفسه على القرب منه وعلى مجالسته تألمت نفسه، وربما تأذت بذلك ومرضت، ويحتاج الإنسان في هـذا إلى مجاهدة شديدة ومكابدة. ومع ذلك فالطبع أغلب، وإذا كان الأمر بهذه المثابة فالأولى بالإنسان ألا يقرب شـيئا يحتاج الإنسـان فيه إلى هـذه المكابدة، ولا يتعرض فيه إلى هـذا الخطر. والمتعرض لهذا الألم زاعما أنه يجاهد نفسه حتى يزيل عنها تلك الكراهة هـو بمنـزلة من أدخل على نفسه مرضا إرادة علاجه حتى يزيله. ولا شك في نقص عقل من كان على هـذا، وإنما الذي يليق بالعقلاء، ويناسب تصرف الفضلاء أن يباعد أسباب الآلام، ويجانب طرق الأوهام، ويجتهد في مجانبة ذلك بكل ممكن مع علمه بأنه لا ينجي [ ص: 135 ] حذر عن قدر، وبمجموع الأمرين وردت الشرائع، وتوافقت على ذلك العقول والطبائع» [17] .

                    3 - ( قول النبي عليه الصلاة والسلام : «لا عدوى ) . إخبار عن ظنه في أمر دنيوي، وليس بالوحي. وقد نقل ابن القيم هـذا المذهب، فقال: «وقد سلك بعضهم مسلكا آخر، فقال: ما يخبر به النبي صلى الله عليه وسلم نوعان؛ أحدهما: يخبر به عن الوحي، فهذا خبر مطابق لمخبره من جميع الوجوه ذهنا وخارجا، وهو الخبر المعصوم. والثاني: ما يخبر به عن ظنه من أمور الدنيا... فهذا ليس في رتبة النوع الأول، ولا تثبت له أحكامه. وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن نفسه الكريمة بذلك تفريقا بين النوعين -ثم ذكر حديث تلقيح النخل، وفيه: ( أنتم أعلم بشئون دنياكم». ) - فهكذا إخباره عن عدم العدوى: إخبار عن ظنه؛ كإخباره عن عدم تأثير التلقيح، لا سيما وأحد البابين قريب من الآخر، بل هـو في النوع واحد، فإن اتصال الذكر بالأنثى وتأثره به كاتصال المعدي بالمعدى وتأثره به، ولا ريب أن كليهما من أمور الدنيا لا مما يتعلق به حكم من الشرع، فليس الإخبار به كالإخبار عن الله سبحانه وصفاته وأسمائه وأحكامه... فلما تبين له عليه السلام من أمر الدنيا -الذي أجرى الله سبحانه عادته به- ارتباط هـذه الأسباب بعضها ببعض، وتأثير التلقيح في صلاح الثمار، وتأثير إيراد الممرض على المصح أقرهم على تأبير النخل ونهاهم أن يورد ممرض على مصح» [18] . [ ص: 136 ] 4 - نفي العدوى بمعنى «أن شيئا لا يعدي بطبعه؛ نفيا لما كانت الجاهلية تعتقده أن الأمراض تعدي بطبعها من غير إضافة إلى الله، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم اعتقادهم» [19] . فالعدوى من الأسباب التي أجرى الله العادة بأنها تفضي إلى مسبباتها، لكن لا تستقل بالعمل، بل الله إن شاء سلبها قواها فلا تؤثر شيئا، وإن شاء أبقاها فأثرت [20] .

                    وهذا رأي جماعة كثيرة؛ منهم البيهقي وابن الصلاح [21] والدهلوي [22] .

                    قال ابن القيم في تعارض الحديثين: «هذا إنما يدل على أن إيراد الممرض على المصح قد يكون سببا يخلق الله تعالى به فيه المرض، فيكون إيراده سببا. وقد يصرف الله سبحانه تأثيره بأسباب تضاده، أو تمنعه قوة السببية، وهذا محض التوحيد، بخلاف ما كان عليه أهل الشرك. وهذا نظير نفيه سبحانه الشفاعة في يوم القيامة بقوله:

                    ( لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ) (البقرة:254) ،

                    فإنه لا تضاد الأحاديث المتواترة المصرحة بإثباتها، فإنه سبحانه إنما نفى الشفاعة التي كان أهل الشرك يثبتونها، وهي شفاعة يتقدم فيها الشافع بين يدي المشفوع عنده، وإن لم يأذن له» [23] . [ ص: 137 ]

                    أخبار الجذام

                    ونظير هـذا التعـارض أحـاديث الجذام ، فقد روى البخاري عن أبي هـريرة رضي الله عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فر من المجذوم كما تفر من الأسد ) [24] .

                    ( وروى مسلم عن الشريد أنه كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي عليه السلام : «إنا قد بايعناك فارجع ) [25] .

                    وروي أيضا عن جابر رضي الله عنه ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم فوضعها معه في القصعة، وقال: «كل، ثقة بالله وتوكلا عليه ) [26] . ورغم أن الحديث الأخير أضعف من أن يعارض خبري البخاري ومسلم ، فإنه يمكن الجمع بين جميع هـذه الأحاديث كما تقدم في مسألة العدوى.

                    متى ننتهي من مشكلة السببية؟

                    والذي تبين لي أن مناط الاختلاف في هـذه القضايا هـو ما يعرف في علم الكلام والفكر الإسلامي بـ: «مشكلة السببية»، ولهذه اتصال وثيق بقضية القدر، ولذلك فهي صعبة جدا ومعقدة. وقد سبق لي بحثها بتفصيل في كتابي: «الوجود بين مبدئي السببية والنظام». ورأيي الخاص هـو: إن على الفكر الإسلامي أن يتجاوز ما أمكن هـذا الإشكال، فيعترف بما يسمى: «العلية المجعولة»؛ أي أن الله تعالى جعل الأشيـاء أسبـابا وعللا لأخرى، [ ص: 138 ] فلا مانع من القول: إن للأشياء -حتى الجمادات- طبائع تؤثر بها، لا على سبيل الاستقلال؛ بل لأن الله تعالى أودع فيها هـذه القدرات. وهي مع ذلك جزء سبب فقط. وهذا مذهب إسلامي قديم، ويبدو لي أنه مذهب السلف، أو يجب أن يكون كذلك. لذلك أقول: إن أولى ما جمع به بين الأحاديث هـو القول الرابع، فلعله أوسط الأقوال وأعدلها.

                    المستقبل الصحي

                    العدوى إذن واقع ولها حقيقة، لذلك وجدنا عمر وبعض الصحابة رضي الله عنهم يترددون في دخول أرض أصابها الطاعون قبل أن يبلغهم التوجيه النبوي المعجز في الموضوع، والذي يؤسس بوضوح لمشروعية -بل أفضلية- التخطيط البشري لشئون الصحة في الحال والمستقبل.

                    يروي الإمام مسلم في صحيحه، في باب: الطاعون، من كتاب: السلام، [ ص: 139 ] ( عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسرغ لقيه أهل الأجناد؛ أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام. قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين. فدعوتهم، فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجت لأمر، ولا نرى أن ترجع عنه. وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا نرى أن تقدمهم على هـذا الوباء. فقال: ارتفعوا عني. ثم قال: ادع لي الأنصار. فدعوتهم له فاستشارهم. فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم. فقال: ارتفعوا عني. ثم قال: ادع لي من كان هـاهنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح. فدعوتهم فلم يختلف عليه رجلان. فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هـذا الوباء. فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر، فأصبحوا عليه. فقال أبو عبيدة بن الجراح : أفرارا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة -وكان عمر يكره خلافه- نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله. أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت واديا له عدوتان؛ إحداهما: خصبة، والأخرى: جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال فجاء عبد الرحمن بن عوف ، وكان متغيبا في بعض حاجته، فقال: إن عندي من هـذا علما؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقـول: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه». قال: فحمد الله عمر ثم انصرف ) [27] .

                    إن هـذا الحديث العظيم يؤسس لفكرة: الحجر الصحي ، فهو يقرر مبدأ الاحتياط لمستقبل صحة الأمة في مجمـوعها. ولم يكتشف العالم هـذا المبدأ إلا بعد أن حصدت الطواعين والأوبئة مئات الملايين في تاريخ الإنسانية. وكنا نعتقد أن ذلك ولى، لولا ظهور ما يسمى بأنفلونـزا الطيور، واحتمال تحوله إلى وباء عالمي خطير، وهذا ما يعطي لأحـاديث العـدوى قيمة خاصة اليوم. [ ص: 140 ]

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية