الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    معلومات الكتاب

                    استشراف المستقبل في الحديث النبوي

                    الدكتور / إلياس بلكا

                    تمهيد عام في التعريف بالمستقبلية وبيان جدواها

                    وقد رأيت أن أقدم للقارئ الكريم نبذة مختصرة عن الدراسات المستقبلية المعاصرة، وذلك قبل البدء في بيان التراث الرسالي في الموضوع. وذلك حتى يكون على بينة من هـذا الحقل الفريد من نوعه، الذي يعتبر من أهم التطورات الأخيرة في مجال العلوم الإنسانية.

                    النشأة

                    عرف النصف الثاني من القرن العشرين نشوء «علم» جديد أطلق عليه: علم المستقبل، أو الدراسات المستقبلية. ويعتبر هـذا «العلم» الوليد أحد أهم التطورات التي حدثت في مجال العلوم الإنسانية في النصف الثاني من هـذا القرن. وقد ساعدت علوم كثيرة على استواء هـذا العلم ونضجه وتمييزه عن سائر التخصصات الإنسانية. ولهذا تلاحظ أن الدراسات المستقبلية تستفيد من العلوم البحتة -وخصوصا الرياضيات- كما تستفيد من العلوم الإنسانية؛ [ ص: 29 ] كعلوم الاجتماع والتاريخ والاستراتيجيا. ويعتبر كتاب المفكر الإنجليزي توماس مور (توفي سنة 1535م) : «يوتوبيا»، من أوائل ما كتب في المستقبل [1] . ثم تبعه فرنسيس بيكون (1626م) في كتابه «أطلنطا الجديدة». ثم كتب توماس مالتوس (ت 1843م) دراسته حول السكان، التي تعد أهم بحث مستقبلي في القرون الأخيرة. وللكاتب جورج ويلز (1946م) دراسات كثيرة حول المستقبل ساهمت في لفت النظر إلى هـذا الحقل المعرفي الجديد. وكذلك فعل الروائي الفرنسي جول فيرن (1903م) [2] . وهذه المرحلة تسميها ماسيني : ما قبل تاريخ الدراسات المستقبلية [3] .

                    التعريف

                    وتختلف أسماء هـذا العلم باختلاف اللغات والمدارس المستقبلية؛ وفي العربية يستعمل كثير من الخبراء مصطلح: «الاستشراف» [4] . وتروج [ ص: 30 ] مصطلحات أخرى لكنها لا تتطابق تماما مع مفهوم البحث المستقبلي، وأهمها: الإستراتيجيا، والتخطيط، والتوقع، والإدارة بالأهداف [5] .

                    أساليب الاستشراف

                    وتعرف الدراسات المستقبلية أنماطا مختلفة للبحث، أهمها [6] : النمط الحدسي، والنمط المعياري، والنمط الاستطلاعي، ونمط الأنساق الكلية، وهو أكثرها تطورا وتعقيدا.

                    أما طرق الاستشراف المعتمدة فأذكر منها: طريقة دلفي، طريقة السيناريو، طريقة النموذج، طريقة الاستكمال الخارجي [7] .

                    التطور المعاصر

                    بدأ إخضاع المستقبل للبحث العلمي والمنهجي في أربعينيات القرن العشرين بفضل جهود مؤسسة عسكرية أمريكية اسمها «راند». وهذا مثال للعلاقة الملحوظة اليوم بين العلم والحرب[8] . ومنذ هـذا التاريخ كثرت البحوث المستقبلية وانتشرت، وظهر خبراء كثر يهتمون بهذا المجال، وتأسست [ ص: 31 ] مئات المراكز والهيئات والمجلات والمؤسسات، التي جعلت من المستقبل مجال اختصاصها. وبين يدي كتاب أصدرته الجمعية الدولية للمستقبل يضم أهم المعلومات المتعلقة بـ: 187 مؤسسة أو جمعية تهتم بالمستقبل، وكذا 124 مجلة في الإطار نفسه، وهذا في 38 دولة [9] .

                    ولقد ساعدت عوامل كثيرة على إنجاز هـذا التطور الكبير؛ إن توفر رصيد معرفي هـائل -يتضاعف كل سبع سنوات- وضع بين أيدي المستقبليين كما من المعارف لا يتصور [10] . كما أن تقدم وسائل معالجة المعلومات -وخصوصا الكمبيوتر- مكن من الاستفادة من هـذا الكم المعرفي. وجاء علم تحليل النظم -وهو علم رياضي جديد- ليجعل من تحليل المعلومات المتوفرة عملية تفيد في الوصول إلى نتائج قيمة في التطبيق. وتعتبر المدرسة الأمريكية -ورائدها هـو العالم الألماني « أوسيب فلتخهايم »- أهم مدارس المستقبليات، وبعدها تأتي المدرسة السوفيتية (الروسية حاليا) والفرنسية [11] . [ ص: 32 ]

                    الجدوى

                    لم تعد الدراسات المستقبلية حلما جميلا، ولا مجرد خيال يشتط به العقل هـاربا من ثقل الواقع المعيش، ولا -كذلك- ترفا فكريا يمارسه بعض العلماء ممن يحب كل جديد وغريب. لقد استقلت هـذه الدراسات بمناهج وقضايا وأفكار، وأصبح لها الآن تاريخ يخصها، بل تجاوزت كثير من الأمم هـذا المستوى لتدخل هـذا النوع من الدراسات في كل مجالات حياتها: في العلوم العسكرية، وفي القضايا السياسية والاستراتيجية، وفي الإشكالات الاقتصادية، وفي مسائل التربية والتعليم. لقد أصبحت هـذه الدراسات شرطا في اتخاذ القرار المناسب، ومرجعا لا بد من استشارته والاستعانة به. ولذلك لا بد لمجتمعات الجنوب -وخصوصا منها المجتمعات الإسلامية والعربية- أن تولي لها عناية خاصة، وكذلك فإن الفكر الإسلامي الحديث سيستفيد كثيرا منها إذا اهتم بها وأدخلها في دائرة بحوثه وأحسن قراءتها والاقتباس منها.

                    وظيفة المستقبليات

                    من أهم مبادئ الدراسات المستقبلية أن المجال الذي يمكن للإنسان أن يؤثر فيه هـو المستقبل [12] بالأساس. ولهذا يطرح الأستاذ المهدي المنجرة مفهوم: استعمار المستقبل، ويقول: إن العالم الإسلامي إذا لم يخطط لمستقبله [ ص: 33 ] فإنه يوشك أن يستعمر بدوره، كما استعمر ماضيه وحاضره [13] . إن المستقبل ليس مجالا للاستكشاف فقط، بل هـو أيضا مجال للعمل والتأثير. ولا تسعفنا الدراسات المستقبلية بمناهج كشف الآتي ومعرفة بعض ملامح المستقبل فقط، بل إنها تعيننا لـما نطرح على أنفسنا هـذا السؤال: كيف نستطيع أن ننشئ مستقبلنا وأن نخضعه لآمالنا وتطلعاتنا وأفكارنا وعقائدنا؟ لهذا تعرف أهم الأمم المتقدمة انشغالا مستمرا بالمستقبل: كيف سيكون، ومن الذي سيتحكم فيه، وما السبيل إلى أن يكون لنا موقع بين دوله المؤثرة؟ وغيرها من أسئلة كثيرة. وهذا الانشغال الدائم بقضية المستقبل من أهم ما يدل على عمق الفروق بين العالم المتقدم والعالم الثالث [14] .

                    لا تدعي الدراسات المستقبلية معرفة الغيب، ولذلك كان مداها الزمني لا يتجاوز -في الغالب- ثلاثين سنة، وهو المستقبل البعيد، لكنها تفيد في تقليل الاحتمالات الواردة في المستقبل بحيث يغلب على ظننا أن مجموعة «أ» من مشاهد المستقبل (السيناريوهات) مستبعدة الوقوع، ومجموعة «ب» راجحة الوقوع. وفي المجموعة «ب» يمكن للبحث المستقبلي أن يرجح بعض [ ص: 34 ] الاحتمالات على بعض [15] . وهذا كله يساهم في جعل صورة المستقبل أقل غموضا واضطرابا، ولهذا فائدة محققة. يقول توفلر : «كل مجتمع يجد نفسه أمام سلسلة من المستقبلات المحتملة، وكذا أمام مجموعة من المستقبلات الممكنة، وكذلك أمام مجموعة من المستقبلات المفضلة. كل هـذه المستقبلات تتنافس باستمرار، لما نقنن التغيير وننظمه فنحن في الحقيقة نسعى إلى أن نحول بعض هـذه المستقبلات الممكنة إلى مستقبلات أكثر احتمالا، وذلك لنحقق أمانينا التي تشكل مطـلبا يتمتع بإجماع عام» [16] . ويقول خبيران في هـذا الحقل: إن تزايد أهميـة الاستشراف لمستقـبل المجتمعات- أو لمستقبل قطاع معين من الحياة الإنسانية- يجد جذوره في بنية العالم المعاصر وطبيعته الدينامية؛ أي بالضبط في تسارع حجم التغيرات التي تحدث في الواقع [17] .

                    وقد أثبت تاريخ الدراسات المستقبلية أنها لا تصيب دائما ولا تخطئ دائما، ولهذا نجد حصيلة مهمة من التوقعات التي بين التاريخ صحتها، ومن [ ص: 35 ] أبرزها ذلك النظر النافذ للمفكر الفرنسي « توكفيل » حين توقع -سنة 1835م- بروز ثنائية الإمبراطوريتين الأمريكية والروسية، وهو ما تحقق بعد حوالي مائة سنة إثر نهاية الحرب العالمية الثانية.

                    ومن التوقعات التي أثبت الزمن صحتها نظرية الأستاذ المهدي المنجرة حول أهمية العامل القيمي والثقافي في حضارة الغد، وأن الحروب المقبلة ستكون حضارية بالأساس، وهو ما بدأ يتحقق مع حرب الخليج الثانية. ثم جاء هـنتغتون فشهر الفكرة

                    [18] . [ ص: 36 ]

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية