الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    التخطيط الاستراتيجي

                    نموذج الإحصاء السكاني

                    مما يثير إعجاب القارئ للسنة الشريفة خصوصا إذا كان غرضه ملاحظة القيم الحضـارية التي ترشد إليها، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر باستخدام أسـلوب الإحصـاء، بل إنه طبـق ذلك عمـليا في المـدينة. بينما ورد في التـوراة لعن العد وتحريـمه، وكان لذلك أثر في تأخر ظهور علم الإحصاء بأوربا [1] .

                    الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر بالإحصاء

                    روى البخاري ، قال: حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن حذيفة ، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اكتبوا لي من تلفظ بالإسلام من الناس. فكتبنا له ألفا وخمس مائة رجل، فقلنا: نخاف ونحن ألف وخمس مائة؟ فلقد رأيتنا ابتلينا، حتى إن الرجل ليصلي وحده وهو خائف ) [2] .

                    وروى مسلم قال: حدثنا أبو كريب ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن شقيق ، ( عن حذيفة قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أحصوا [ ص: 141 ] لي كم يلفظ الإسلام؟ قـال: فقلنـا: يا رسول الله، أتخاف علينا ونحن ما بين الست مائة إلى السبع مائة؟ قال: إنكم لا تدرون، لعلكم أن تبتلوا. قـال: فابتلينا، حتى جعل الرجل منا لا يصلي إلا سرا ) [3] . وبهذا اللفظ رواه أحمد [4] .

                    والإحصاء هـو العد، بينت رواية البخاري أنه كان بالكتب، لذلك بوب على الحديث: باب كتابة الإمام الناس.

                    وقد ذكر البخاري طريقين آخرين ذكرهما الرواة في نتيجة الإحصاء، فقال عقب الحديث: حدثنا عبدان عن أبي حمزة عن الأعمش : فوجدناهم خمسمائة. قال أبو معاوية : ما بين ستمائة إلى سبعمائة. وعلق على ذلك ابن حجر : «كأن رواية الثوري رجحت عند البخاري؛ فلذلك اعتمدها لكونه أحفظهم مطـلقا، وزاد عليهم، وزيادة الثقـة الحافظ مقدمة. وأبو معاوية وإن كان أحفظ أصحاب الأعمش بخصوصه، ولذلك اقتصر مسلم على روايته لكنه لم يجزم بالعدد، فقدم البخاري رواية الثوري لزيادتها بالنسبة لرواية الاثنين، ولجزمها بالنسبة لرواية أبي معاوية» [5] . [ ص: 142 ] وقد قيل في الجمع بين الروايات:

                    قام الصحابة بأكثر من إحصاء واحد.

                    المـراد بالألـف وخمسمائة جميـع من أسـلم، بما في ذلك النساء والأطفال، وبما بين الستمائة إلى السبعمائة الرجال خاصة، وبالخمسمائة المقاتلون فقط. ويعكر عليه أن في روايةالبخـاري : ألف وخمسمائة رجل.

                    الروايـة الأولى في أهل المدينة وما حـولها من البادية. والثـانية في المدنيـين خاصـة [6] . لكن كما قال الحافظ : «يخدش في وجوه هـذه الاحتمـالات كلها اتحـاد مخرج الحديث ومداره على الأعمـش بسنـده، واختـلاف أصحـابه عليـه في العـدد المذكور، والله أعلم» [7] .

                    فلعـل رواية البخاري أرجـح، خصـوصا مع جزمها، والإحصاء لا يترك مجـالا للتردد؛ لأن المقصـود منه هـو الضبـط ومعرفة الأمور على حقيقتها، بخـلاف التقـدير تكون الغـاية منه إدراك الواقع على وجه التقريب فقط. [ ص: 143 ]

                    - زمن الإحصاء:

                    يبقى السؤال: متى كان هـذا الإحصاء النبوي؟

                    فقال ابن حجر : لعله كان عند خروجهم إلى أحد أو غيرها. وجزم ابن التين بأن ذلك عند حفر الخندق. أما الداودي فقد جوز أن يكون ذلك بالحديبية [8] .

                    وهذه الأجوبة كلها محتملة، وأبعدها -في نظري- رأي القرطبي حين علق على قول حـذيفة : فابتلينا... فقال: «يعني بذلك والله أعلم ما جرى لهم في أول الإسلام بمكة حين كان المشركون يؤذونهم ويمنعونهم من إظهار صـلاتهم حتـى كانوا يصلون سرا» [9] . فهذا سهو من الشارح، رحمه الله؛ ذلك:

                    1 - لأن حذيفة مدني لا مكي؛ لأن أباه اليمان كان أصاب دما في قومه فهرب إلى المدينة [10] .

                    2 - لأن عدد المسلمين بمكة لم يكن يصل هـذا الرقم. هـذا معلوم من السيرة.

                    3 - وفي الحديث قرائن أخرى كاستغراب الصحابة أن يصيبهم خوف، وليس هـذا حالهم في مكة. [ ص: 144 ] لهذا ترجـم البخاري: باب: كتـابة الإمام الناس، والنبي لم يكن إماما إلا بالمدينة.

                    1 - تخريج زمن الإحصاء على رواية البخاري: الظاهر أن الإحصاء شمل الرجال، من المسلمين والمنافقين أيضا؛ لأن النبي الكريم عليه الصلاة والسلام قيد الكتابة بالتلفظ بالإسلام؛ أي بالشهادتين، وكانت سياسته عليه السلام مطردة في اعتبار المنافقين من أهل الإسلام بحسب الظاهر. ونحن نعرف من كتب السيرة أن جيش المسلمين بأحد كان حوالي ألفا، بقي منهم بعد انسحاب المنافقين الثلثان. ونعلم أيضا أن عدد المسلمين بغزوة الخندق حوالي ثلاثة آلاف، وكانت في السنة الخامسة [11] .

                    إذن فالإحصاء كان بين هـاتين الغزوتين. " وقول الصحابة: أنخاف ونحن ألف وخمسمائة. " يقتضي أنـهم كانوا يشعرون بنوع من القوة والمنعة، " كما قالوا يوم حنين : لن نهزم من قلة. " وهذا الشعور لا يمكن أن يكون بعد أحد، ولا في السنة الثالثة للهجرة؛ لما وقع فيها من مصيبة يومي الرجيع وبئر معونة ؛ حيث قتلت بعض القبائل عشرات القراء، كأنها استهانت بشوكة المسلمين بعد هـزيمتهم بأحد.

                    وغـالب ظنـي أن هـذا الإحصـاء الذي أمـر به الرسـول عليه الصلاة والسلام كان في السنة الرابعـة، ففيها استعاد المسلون [ ص: 145 ] معنوياتـهم، كما يقال؛ بسبب إجلاء بني النضير وغزوة ذات الرقاع ... وهما أبرز نجاحات تلك السنة.

                    2 - تخريج زمن الإحصاء على رواية مسلم: والراجح لدي أنه كان قبل غزوة أحد ؛ لأن عدد الرجال الذين كانوا بالمدينة وقتها يفوق ألفا بيقين. لكن إحساس الصحابة بقوة أمرهم يمكن إرجاعه إلى الفترة بعيد بدر ، وهذا الانتصار الكبير -حيث كان فيه عددهم ثلاثمائة وأربعة عشر رجلا- كان على رأس إحدى وعشرين شهرا من الهجرة، بينما كانت أحد على رأس اثنين وثلاثين شهرا.

                    أما الابتلاء والصـلاة خـائفا أو سـرا، فالأقرب أن ذلك كان بغزوة الخنـدق ، ففيها اشتـد الخوف على الصحابة حين تكالبت عليهم الأحزاب [12] . [ ص: 146 ]

                    - غاية الإحصاء:

                    والحكمة من هـذا الإحصاء أن النبي عليه الصلاة والسلام احتاج إلى معرفة الطاقات والإمكانات التي بحوزته؛ حتى يختار في ضوء ذلك المواجهة من عدمها، ويدرس ظروفها وحدودها؛ إذ من المعلوم أن التخطيط السليم ينبني على المعلومات الدقيقة. قال الحافظ : في الحديث مشروعية كتابة دواوين الجيوش، وقد يتعين ذلك عند الاحتيـاج إلى تمييز من يصـلح للمقاتلة ممن لا يصلح. ونقل عن ابن المنير قوله: موضع الترجمة من الفقه أن لا يتخيل أن كتابة الجيش وإحصاء عدده يكون ذريعة لارتفاع البركة، بل الكتابة المأمور بها لمصلحة دينية، والمؤاخذة التي وقعت في حنين كانت من جهة الإعجاب [13] .

                    يشير إلى قوله تعالى: ( ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا ) (التوبة:25) .

                    - تعدده:

                    ويظهر أن هـذا الإحصاء المذكور لم يكن الأخير، بل استمر الرسول المعلم صلى الله عليه وسلم في استعمال هـذا الأسلوب، ( فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله: إني كتبت في غزوة كذا وكذا، وامرأتي حاجة، قال: ارجع فحج مع امرأتك ) [14] . [ ص: 147 ] وإذ كان الإحصاء الأول في بداية الإسلام بالمدينة، فإن هـذا الاكتتاب كان بآخره؛ لأن الحج المذكور كان إما في سنة تسع مع أبي بكر الصديق ، أو في سنة عشر، وهي حجة الوداع [15] .

                    وقد تعود الصحابة أسلوب الإحصاء والعد، فاحتفظوا لنا بأعداد من شارك في الغزوات، ومن استشهد، ومن أسر، حتى ذكروا أعداد الخيول والذبائـح ونحـوها. يكفي لإدراك هـذا الأمر الاطلاع على أي كتاب في السيرة النبوية [16] .

                    والحقيقة أنه ليس بمستغرب أن يلجأ الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام إلى منهج الإحصـاء، فإن المؤمن يتشبه بصفات الله، أو ببعضها، وهو يقرأ أن ربه عز وجل يحصي كل شيء ويكتبه ويحفظه:

                    ( إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ) (يس:12) ،

                    ( وأحصى كل شيء عددا ) (الجن:28) . قال المناوي في كلمة أحصوا: عدوا واضبطوا، والإحصاء أبلغ من العد في الضبط؛ لما فيه من إعمال الجهد في العد [17] . [ ص: 148 ]

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية