والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين
"البدن": جمع بدنة، وهي ما أشعر من ناقة أو بقرة، قاله وغيره، وسميت بذلك لأنها تبدن، أي تسمن، وقيل: بل هذا الاسم خاص بالإبل، وقالت فرقة: "البدن": جمع بدن -بفتح الباء والدال- ثم اختلفت، فقال بعضها: البدن مفرد اسم جنس يراد به العظيم السمين من الإبل والبقر، ويقال للسمين من الرجال: بدن، وقال بعضها: البدن جمع بدنة كثمرة وثمر، وقرأ الجمهور : "والبدن" ساكنة الدال، وقرأ عطاء ، أبو جعفر وشيبة ، والحسن، وابن أبي إسحق : "البدن" بضم الدال، فيحتمل أن يكون جمع بدنة كثمر، وعدد الله تعالى في هذه الآية نعمه على الناس في هذه البدن، وقد تقدم القول في "الشعائر". و "الخير" قيل فيه ما قيل في "المنافع" التي تقدم ذكرها، والصواب عمومه في خير الدنيا والآخرة. وقوله تعالى: "عليها" يريد: عند نحرها.
وقرأ جمهور الناس: "صواف" بفتح الفاء وشدها، جمع صافة، أي: مطيعة في قيامها، وقرأ ، الحسن ، ومجاهد ، وزيد بن أسلم ، وأبو موسى الأشعري وشقيق ، [ ص: 249 ] وسليمان التيمي ، : "صوافي" جمع صافية، أي: خالصة لوجه الله تعالى، لا شركة فيها لشيء كما كانت الجاهلية تشرك، وقرأ والأعرج أيضا: "صواف" بكسر الفاء وتنوينها مخففة، وهي بمعنى التي قبلها لكن حذفت الياء تخفيفا على غير قياس، وفي هذا نظر، وقرأ الحسن ، ابن مسعود وابن عمر ، وابن عباس : "صوافن" بالنون جمع صافنة، وهي التي قد رفعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب، والصافن من الخيل: الرافع لفراهته إحدى يديه وقيل إحدى رجليه، ومنه قوله تعالى: وأبو جعفر محمد بن علي الصافنات الجياد ، وقال عمرو بن كلثوم :
تركنا الخيل عاكفة عليه مقلدة أعنتها صفونا
ألم تكسف الشمس والبدر والـ ـكواكب للجبل الواجب
[ ص: 250 ] و"القانع": السائل، يقال: قنع الرجل يقنع قنوعا إذا سأل، بفتح النون في الماضي، وقنع بكسر النون يقنع قناعة فهو قنع إذا تعفف واستغنى ببلغته، قاله ، ومن الأول قول الخليل الشماخ :
لمال المرء يصلحه فيغني مفاقره أعف من القنوع
و "المعتر": المتعرض من غير سؤال، قاله ، محمد بن كعب القرظي ، ومجاهد وإبراهيم ، ، والكلبي ، وعكست فرقة هذا القول، حكى والحسن بن أبي الحسن عن الطبري رضي الله عنهما أنه قال: القانع: المستغني بما أعطيته، والمعتر هو المعترض، وحكي عنه أنه قال: القانع: المتعفف، والمعتر: السائل، وحكي عن ابن عباس أنه قال: القانع: الجار وإن كان غنيا، وقرأ مجاهد "القانع"، فعلى هذا التأويل معنى الآية: أطعموا المتعفف الذي لا يأتي معترضا، وذهب أبو رجاء إلى أنه أراد "القانع" فحذف الألف تخفيفا. أبو الفتح بن جني
وهذا بعيد; لأن توجيهها على ما ذكرته آنفا أحسن، وإنما يلجأ إلى هذا إذا لم توجد مندوحة، وقرأ ، أبو رجاء : "المعتري"، والمعنى واحد، ويروى [ ص: 251 ] عن وعمرو بن عبيد "والمعتر" بتخفيف الراء، وقال الشاعر: أبي رجاء
لعمرك ما المعتر يغشى بلادنا لنمنعه بالضائع المتهضم
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وهذا كله على جهة الاستحسان لا على الفرض، ثم قال تعالى: "كذلك"، أي: كما أمرتكم فيها بهذا كله سخرناها لكم، و "لعلكم" ترج في حقنا وبالإضافة إلى نظرنا.
وقوله تعالى: "ينال" عبارة مبالغة وتوكيد، وهي بمعنى: لن يرتفع عنده ويتحصل سبب ثواب، وقال رضي الله عنهما: إن أهل الجاهلية كانوا يضرجون البيت بالدماء فأراد المؤمنون فعل ذلك فنهى الله تعالى عن ذلك ونزلت هذه الآية، والمعنى: ولكن ينال الرفعة عنده والتحصيل حسنة لديه التقوى، أي الإخلاص وعمل الطاعات. وقرأ ابن عباس ، مالك بن دينار ، والأعرج ، وابن يعمر : "لن تنال"، "ولكن تناله" بتاء فيهما. والزهري
وروي أن قوله تعالى: والتسمية والتكبير على الهدي والأضحية هو أن يقول الذابح: باسم الله والله أكبر، وبشر المحسنين حسبما تقدم في التي قبلها، فأما ظاهر اللفظ فيقتضي العموم في كل محسن. نزلت في الخلفاء الأربعة رضي الله تعالى عنهم
[ ص: 252 ]