قوله عز وجل:
إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز
روي أن هذه الآية نزلت بسبب المؤمنين، لما كثروا بمكة وآذاهم الكفار وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار ويغتال ويغدر ويحتال، فنزلت هذه الآية إلى قوله تعالى: "كفور"، ووعد فيها بالمدافعة، ونهى أفصح نهي عن الخيانة والغدر. وقرأ ، نافع ، والحسن : "يدافع" "ولولا دفاع"، وقرأ وأبو جعفر ، أبو عمرو : "يدفع"، "ولولا دفع"، وقرأ وابن كثير ، عاصم ، وابن عامر ، وحمزة : "يدافع"، "ولولا دفع"، قال والكسائي : أجريت "دافع" في هذه القراءة مجرى "دفع"، كعاقبت اللص وطارقت النعل، فجاء المصدر دفعا، قال أبو علي أبو الحسن : أكثر الكلام أن الله يدفع، ويقولون: دافع الله عنك إلا أن دفع أكثر. والأخفش
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
يحسن في الآية "يدافع" لأنه قد عن للمؤمنين من يدفعهم ويؤذيهم فتجيء معارضته ودفعه مدافعة عنهم، وحكى أن "دفاعا" مصدر "دفع"، كحسبت حسابا. ثم أذن الله تعالى في قتال المؤمنين لمن قاتلهم من الكفار بقوله: "أذن"، وصورة الإذن مختلفة بحسب القراءات، فبعضها أقوى من بعض، فقرأ الزهراوي ، نافع وحفص عن : "أذن" بضم الألف "يقاتلون" بفتح التاء، أي: في أن يقاتلهم، فالإذن في هذه القراءة ظاهر أنه في مجازاة، وقرأ عاصم ، أبو عمرو وأبو بكر عن ، عاصم ، والحسن : "أذن" بضم الألف "يقاتلون" بكسر التاء، فالإذن في هذه القراءة في ابتداء القتال، وقرأ والزهري ، ابن كثير ، وحمزة : "أذن" بفتح الألف "يقاتلون" بكسر التاء، وقرأ والكسائي بفتح الألف والتاء جميعا، وهي في مصحف ابن عامر رضي الله عنه: [ ص: 253 ] "أذن للذين يقاتلون في سبيل الله" بكسر التاء، وفي مصحف ابن مسعود "أذن" بضم الهمزة "للذين قاتلوا"، وذلك قرأ أبي طلحة إلا أنهما فتحا همزة "أذن". والأعمش
وقوله تعالى: بأنهم ظلموا معناه: كان الإذن بسبب أنهم ظلموا، قال : وهذه الآية أول ما نقض الموادعة. قال ابن جريج ، ابن عباس : نزلت عند هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وابن جبير المدينة ، وقال رضي الله عنه: لما سمعت علمت أنه سيكون قتال، وقال أبو بكر الصديق : الآية في مؤمنين مجاهد بمكة أرادوا الهجرة إلى المدينة فمنعوا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وما بعد هذا في الآية يرد هذا القول; لأن هؤلاء منعوا الخروج لا أخرجوا. ثم وعد تعالى بالنصر في قوله سبحانه: وإن الله على نصرهم لقدير .
وقوله تعالى: الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق يريد كل من نبت به مكة وآذاه أهلها حتى أخرجوه بإذايتهم، طائفة إلى الحبشة وطائفة إلى المدينة ، ونسب الإخراج إلى الكفار لأن الكلام في معرض تقرير الذنب وإلزامه. وقوله تعالى: إلا أن يقولوا ربنا الله استثناء منقطع ليس من الأول، هذا قول ، ولا يجوز عنده فيه البدل، وجوزه سيبويه أبو إسحق ، والأول أصوب.
[ ص: 254 ] وقوله تعالى: ولولا دفع الله الناس الآية تقوية للأمر بالقتال، وذكر الحجة بالمصلحة فيه، وذكر أنه متقدم في الأمم، وبه صلحت الشرائع واجتمعت المتعبدات، فكأنه قال: أذن في القتال فليقاتل المؤمنون، ولولا القتال والجهاد لتغلب على الحق في كل أمة. هذا أصوب تأويلات الآية. ثم ما قيل بعد من مثل الدفاع تبع للجهاد، وقال : ولولا دفع الله ظلم قوم لشهادة العدول ونحو هذا، وقالت فرقة: ولولا دفع الله ظلم الظلمة بعدل الولاة، وقال مجاهد رضي الله عنه: ولولا دفع الله بأصحاب علي بن أبي طالب محمد صلى الله عليه وسلم الكفار عن التابعين فمن بعدهم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وهذا كله فيه دفع قوم بقوم إلا أن معنى القتال أليق بما تقدم من الآية. وقالت فرقة: ولولا دفع الله العذاب بدعاء الفضلاء والأخيار ونحوه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وهذا وما شاكله مفسد لمعنى الآية، وذلك أن الآية تقتضي ولا بد مدفوعا من الناس ومدفوعا عنه، فتأمله.
وقرأ ، نافع : "لهدمت" مخففة الدال، وقرأ الباقون: "لهدمت" مشددة الدال. وابن كثير
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وهذه تحسن من حيث هي صوامع كثيرة ففي هدمها تكرار وكثرة، كما قال تعالى: في بروج مشيدة فثقل الياء، وقال: " قصر مشيد " فخفف لكونه فردا، ومنه وغلقت الأبواب ، و مفتحة لهم الأبواب .
[ ص: 255 ] و "الصومعة": موضع العبادة، وزنها فوعلة، وهي بناء مرتفع منفرد حديد الأعلى، والصومع من الرجال: الحديد القلب، وكانت قبل الإسلام مختصة بالرهبان النصارى وبعباد الصابئين -قاله - ثم استعمل في مئذنة المسلمين. قتادة
و "البيع": كنائس النصارى ، واحدتها بيعة، قال : وقيل: هي كنائس اليهود . الطبري
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
ثم أدخل عن ما لا يقتضي ذلك. مجاهد
و "الصلوات" مشتركة لكل ملة، واستعير الهدم للصلوات من حيث تعطل، أو أراد: موضع صلوات، وذهبت فرقة إلى أن "الصلوات" اسم لكنائس اليهود ، وأن اللفظة عبرانية عربت، وليست بجمع صلاة. وقال : الصلوات مساجد الصابئين. واختلفت القراءة فيها فقرأ جمهور الناس: "صلوات" بفتح الصاد واللام وبالتاء بنقطتين، وذلك إما بتقدير: مواضع صلوات، وإما على أن تعطيل الصلاة هدمها، وقرأ أبو العالية جعفر بن محمد : "صلوات" بفتح الصاد وسكون اللام، وقرأت فرقة: "صلوات" بكسر الصاد وسكون اللام، حكاها ، وقرأ ابن جني الجحدري -فيما روي عنه-: "وصلوات" بنقطتين من فوق وبضم الصاد واللام، على وزن فعول، قال: وهي مساجد النصارى ، وقرأ الجحدري ، والحجاج بن يوسف : "وصلوب" بضم الصاد واللام وبالباء، على أنه جمع صليب، وقرأ الضحاك : "وصلوث" بضم الصاد واللام وبالثاء منقوطة ثلاثا، قالوا: وهي مساجد اليهود ، وقرأت فرقة: "صلوت" بفتح الصاد وسكون اللام، وقرأت فرقة: "وصلوات" بضم الصاد واللام، حكاها والكلبي ، وقرأت فرقة: "صلوتي" بضم الصاد واللام وقصر الألف بعد التاء، وحكى ابن جني أن خارج باب ابن جني الموصل بيوت تدفن فيها النصارى يقال لها: صلوات، وقرأ ، عكرمة : "صلوتي" بكسر الصاد وسكون اللام وكسر الواو وقصر الألف بعد التاء. ومجاهد
[ ص: 256 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وذهب خصيف إلى أن هذه الأسماء قصدها تقسيم متعبدات الأمم، فالصوامع للرهبان.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وقيل: للصابئين، والبيع للنصارى، و الصلوات لليهود ، والمساجد للمسلمين.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
والأظهر أنها قصد بها المبالغة في ذكر المتعبدات، وهذه الأسماء تشترك الأمم في مسمياتها إلا البيعة فإنها مختصة بالنصارى في عرف لغة العرب ، ومعاني هذه الأسماء هي في الأمم التي لها كتاب على قديم الدهر، ولم يذكر في هذه المجوس ولا أهل الاشتراك لأن هؤلاء ليس لهم ما تجب حمايته، ولا يوجد ذكر الله تعالى إلا عند أهل الشرائع.
وقوله تعالى: يذكر فيها اسم الله كثيرا الضمير عائد على جميع ما تقدم. ثم وعد الله تبارك وتعالى بنصره ونصر دينه وشرعه، وفي ذلك حض على القتال والجد فيه، ثم الآية تعم كل من نصر حقا إلى يوم القيامة.