ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون
"هؤلاء" دالة على أن المخاطبة للحاضرين لا تحتمل ردا إلى الأسلاف، [ ص: 273 ] قيل: تقدير الكلام: يا هؤلاء، فحذف حرف النداء، ولا يحسن حذفه عند مع المبهمات. لا تقول: هذا أقبل. وقيل: تقديره أعني هؤلاء. وقيل: هؤلاء بمعنى الذين، فالتقدير ثم أنتم الذين تقتلون، فـ "تقتلون" صلة لهؤلاء ونحوه، قال سيبويه : يزيد بن مفرغ الحميري
عدس ما لعباد عليك إمارة نجوت وهذا تحملين طليق
وقرأ "أسرى تفدوهم"، وقرأ حمزة نافع وعاصم : "أسارى تفادوهم"، وقرأ والكسائي ، أبو عمرو ، وابن عامر : "أسارى تفدوهم" وقرأ قوم: "أسرى تفادوهم". وأسارى: جمع أسير والأسير مأخوذ من الأسر وهو الشد. سمي بذلك لأنه يؤسر أي يشد وثاقا، ثم كثر استعماله حتى لزم، وإن لم يكن ثم ربط ولا شد، وأسير فعيل بمعنى مفعول ولا يجمع بواو ونون وإنما يكسر على أسرى وأسارى، والأقيس فيه أسرى، لأن فعيلا بمعنى مفعول الأصل فيه أن يجمع على فعلى كقتلى وجرحى، [ ص: 275 ] والأصل في فعلان أن يجمع على فعالى بفتح الفاء، وفعالى بضمها، كسكران وكسلان وسكارى وكسالى. قال وابن كثير : فقالوا في جمع كسلان: كسلى، شبهوه بأسرى كما قالوا: أسارى، شبهوه بكسالى، ووجه الشبه أن الأسر يدخل على المرء مكرها كما يدخل الكسل، وفعالى إنما يجيء فيما كأن آفة تدخل على المرء. سيبويه
و"تفادوهم" معناه في اللغة تطلقونهم بعد أن تأخذوا عنهم شيئا، قاله ، وفاديت نفسي إذا أطلقتها بعد أن دفعت شيئا، فعلى هذا قد تجيء بمعنى فديت أي دفعت فيه من مال نفسي، ومنه قول أبو علي للنبي صلى الله عليه وسلم: العباس . وهما فعلان يتعديان إلى مفعولين، الثاني منهما بحرف جر، تقول: فديت زيدا بمال، وفاديته بمال، وقال قوم: هي في قراءة تفادوهم مفاعلة في أسرى بأسرى، قال أعطني فإني فاديت نفسي، وفاديت عقيلا : كل واحد من الفريقين فعل: الأسر دفع الأسير، والمأسور منه دفع أيضا إما أسيرا وإما غيره، والمفعول الثاني محذوف. أبو علي
وقوله تعالى: وهو محرم ، قيل في "هو": إنه ضمير الأمر، تقديره: والأمر محرم عليكم، و"إخراجهم" في هذا القول بدل من "هو"، وقيل: "هو" فاصلة، وهذا مذهب الكوفيين ، وليست، هنا بالتي هي عماد و"محرم" على هذا ابتداء و"إخراجهم" خبره، وقيل: هو الضمير المقدر في "محرم" قدم وأظهر، وقيل: هو ضمير الإخراج تقديره: وإخراجهم محرم عليكم.
وقوله تعالى: أفتؤمنون ببعض الكتاب يعني التوراة، والذي آمنوا به فداء [ ص: 276 ] الأسارى، والذي كفروا به قتل بعضهم بعضا وإخراجهم من ديارهم، وهذا توبيخ لهم، وبيان لقبح فعلهم.
وروي أن مر على رأس الجالوت عبد الله بن سلام بالكوفة وهو يفادي من النساء من لم تقع عليه العرب ، ولا يفادي من وقع عليه، فقال له : أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهن كلهن. ثم توعدهم عز وجل. والخزي: الفضيحة والعقوبة يقال: خزي الرجل يخزى خزيا إذا ذل من الفضيحة، وخزي يخزى خزاية إذا استحيا. ابن سلام
واختلف ما المراد بالخزي هاهنا؟ فقيل: القصاص فيمن قتل، وقيل: ضرب الجزية عليهم غابر الدهر، وقيل: قتل قريظة وإجلاء النضير . و"الدنيا" مأخوذة من دنا يدنو، وأصل الياء فيها واو، ولكن أبدلت فرقا بين الأسماء والصفات.
و أشد العذاب الخلود في جهنم، وقرأ ، الحسن "تردون" بتاء. وابن هرمز
وقوله تعالى: وما الله بغافل الآية، قرأ ، نافع "يعملون" بياء على ذكر الغائب، فالخطاب بالآية لأمة وابن كثير محمد صلى الله عليه وسلم، والآية واعظة لهم بالمعنى إذ الله تعالى [ ص: 277 ] بالمرصاد لكل كافر وعاص. وقرأ الباقون بتاء على الخطاب المحتمل أن يكون في سرد الآية وهو الأظهر، ويحتمل أن يكون لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد روي أن رضي الله عنه قال: "إن بني إسرائيل قد مضوا، وأنتم الذين تعنون بهذا يا أمة عمر بن الخطاب محمد .