ولما كان التقدير: أكذلك الأمر عادله بقوله: أم لهم إله يمنعهم من التصديق بكتابنا، أو يستندون إليه للأمان من عذابنا غير الله الذي أحاط بجميع صفات الكمال، فلا يمكن بوجه من الوجوه ولا على تقدير من التقادير أن يكون معه إله، ولذلك وصل به قوله: سبحان الله أي الملك الأعظم الذي تعالى أن يداني جنابه شائبة نقص عما يشركون من الأصنام وغيرها، وأخر سبحانه هذا القسم وهو من الشركة لكن بالغير لأنه آت على تقدير التصديق للرسول صلى الله عليه وسلم ولأنه دينهم الذي أوقفهم عن الهدى، فأوقعهم في الردى، ليحتم بنفسه والتنزيه عن الأقسام فيحصل به غاية القصد والمرام. والحاصل أنه قسم به سبحانه حالهم في ردهم القرآن إلى التكذيب وغيره، ولما كان التكذيب - وهو النسبة إلى الكذب وهو عدم المطابقة للواقع - إما في الإرسال، وإما في المعاني، وما وقع به الإرسال [ ص: 32 ] إما لنقص في الرسول وإما النقص في المرسل، والذي في الرسول إما أن يكون لأمر خارج عنه أو لأمر داخل فيه، ولما كان الخارج قد يكون معه نقص دخل بذاته، ولما كان ذلك قد يكون فيه ما يمدح به ولو من وجه، وهو الكهانة بدأ بها، وأتبعه الداخل لذلك بادئا بما قد يمدح به وهو الشعر. ولما كان القول بجمع الكهانة والشعر والجنون في شخص واحد على غاية من ظهور التناقض لا يخفى، أتبعها الرمي بالتهكم على عقولهم. ولما كان الكذب في الرمي بالتقول قد يخفى، أتبعه دليله بالعجز عن المعارضة. ولما قسم ما رموا به الرسول، أتبعهم ما ألزمهم به في المرسل، ولما كان ذلك إما أن يكون بالتعطيل أو لا، وكان التعطيل أشد، بدأ به وهو الخلق من غير شيء، ولما كان النقص مع الإقرار بالوجود إما أن يكون بالشركة أو لا، وكان ما بالشركة إما أن يكون المكذب هو المشارك أو لا، وكانت شركة المكذب أقعد في التكذيب بدأبها، ولما كانت شركة المكذب إما أن تكون في الخلق أو لا، وكان الأول إما أن يكون بخلق النفس أو الغير، وكانت الشركة بخلق النفس ألصق، بدأ بها قوله: أم هم الخالقون ولما كانت الشركة بغير الخلق إما أن يكون بضبط الحواس أو لا، وكان الثاني إما أن يكون بضبط الكتاب فيها وإليه الإشارة بالمسيطر، أو بضبط ما يؤمر به فيها وإليه الإشارة بالسلم أو بسفه صاحب الخزائن لرضاه بالبنات، وكان كل قسم أشد مما بعده رتبه هكذا. ولما انتهى ما يرجع [ ص: 33 ] إلى التكذيب، أتبعه الرد لا للتكذيب بل لأمر آخر، ولما كان ذلك الأمر إما من الآتي أو من المأتي إليه أو من غيرهما، كان ما من الآتي ألصق بدأ به وهو المغرم، ولما كان ما من المأتي إليه - إما لحسد أو غيره، وكان أمر الحسد أشد، بدأ به وهو المشاركة في الأبناء بما يكون به الفخر والرئاسة وهو علم الغيب - الناظر بوجه للكهانة المبدوء بها في قسم التكذيب، وآخر ما من الغير وهو الشريك المانع لهم من القبول، وخلطه بهذا القسم مع كونه قسيما لما فرض فيه المكذب مشاركا لخلوه عما قارن تلك الأقسام من التكذيب، هذا تمام القول في إبطال ما لزمهم فيما تقولوه في أمر القرآن، وقد تضمن ما ترى من تأصيله وتقسيمه وتفصيله من بيان مقدورات الله وعجائب مصنوعاته ما ألزمهم حتما التوحيد الملزم بتصديق الرسالة والإذعان للحق مع ما له من الإعجاز في ترتيبه ونظمه وتهذيبه وتسهيله وتقريبه مجلوا أسلوبه العظيم بألفاظ هي الدر النظيم، ومعان علت عن لاحق بغريزة أو تعليم، يكاد لها أثبت القلوب يهيم فيطير، وأبلغ البلغاء في أفنان روحها يتدله ويحير، فكان ذلك كما قال رضي الله عنه كما روى جبير بن مطعم البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي رضي الله عنهم وابن ماجه وقال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بالطور، في التفسير: فلما بلغ هذه الآية البخاري أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون أم عندهم خزائن ربك [ ص: 34 ] أم هم المصيطرون كاد قلبي يطير، وقال فلما سمعته يقرأ ابن ماجه: أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون - إلى قوله - فليأت مستمعهم بسلطان مبين كاد قلبي يطير. وسبق في أول السورة ما ذكره من هذا الحديث. البغوي