ولما أتم تعالى الخبر عن إحاطة العلم، استأنف الإخبار عن حكم الأمر المجادل بسببه، فقال ذاما للظهار. وكاسيا له ثوب العار: الذين ولما كان الظهار منكرا لكونه كذبا، عبر بصيغة التفعل الدالة عليه فقال: يظهرون أي يوجدون الظهار في أي رمضان [كان] وكأنه أدغم تاء التفعل والمفاعلة لأن حقيقته أنه يذهب ما أحل الله له من مجامعة زوجته. ولما كان الظهار خاصا بالعرب دون سائر الأمم، نبه على ذلك تهجينا له عليهم وتقبيحا لعادتهم فيه، تنبيها على أن اللائق بهم أن يكونوا أبعد الناس من هذا الكلام لأن الكذب لم يزل [ ص: 343 ] مستهجنا عندهم في الجاهلية، ثم [ما] زاده الإسلام [إلا] استهجانا فقال: منكم أي أيها العرب المسلمون الذين يستقبحون الكذب ما لا يستقبحه غيرهم وكذا من دان دينهم من نسائهم أي يحرمون نساءهم على أنفسهم تحريم الله عليهم ظهور أمهاتهم بأن يقول أحدهم لزوجته شيئا من صرائحه مثل أنت علي كظهر أمي وكناياته كأنت أمي، وكل زوج صح طلاقه صح ظهاره من حر أو عبد مسلم أو ذمي دخل بالزوجة أو لا قادرا كان على الجماع أو عاجزا، صغيرة كانت الزوجة أو كبيرة، عاقلة كانت أم مجنونة، سليمة كانت أو رتقاء، مسلمة كانت أو ذمية، ولو كانت رجعية.
ولما كان وجه الشبه التحريم، وكان للتحريم رتبتان: عليا موصوفة بالتأبيد والاحترام، ودنيا خالية عن كل من الوصفين، وكان التقدير خبرا للمبتدأ: مخطئون في ذلك لأنه كذب، لأن التشبيه إن أسقطت أداته لم يكن حمله على الحقيقة ليكون من الرتبة العليا ولو على أدنى أحوالها من أنه طلاق لا رجعة فيه، كما كانوا يعتقدونه، وإن أثبتت ليكون من [ ص: 344 ] الدنيا لم يكن صحيحا لأنه ممنوع منه لأن التشريع إنما هو لله، والله لم يكن يشرع ذلك، وكان تعليل شقي التشبيه يفيد معنى الخبر بزيادة التعليل، حذف الخبر، واكتفى بالتعليل فقال معللا له مهجنا للظهار الذي تعوده العرب من غير أن يشاركهم فيه أحد من الأمم: ما هن أي نساؤهم أمهاتهم على تقدير إرادة أحدهم [أعلى] رتبتي التحريم، والحاصل أنهم لما كانوا يعتقدون أنه طلاق لا رجعة فيه جعلوا معتقدين أن المرأة أم لأن الحرمة المؤبدة من خصائص الأم فخوطبوا بذلك تقريعا لهم لأنه أردع، وفي سورة الأحزاب ما يوضح هذا.
ولما كانوا قد مرنوا على هذا الحكم في الجاهلية، واستقر في أنفسهم استقرارا لا يزول إلا بغاية التأكيد، ساق الكلام كذلك في الشقين فقال: إن أي ما أمهاتهم [أي] حقيقة إلا اللائي ولدنهم ونساؤهم لم تلدهم، فلا يحرمن عليهم حرمة مؤبدة للإكرام والاحترام، ولا هن ممن ألحق بالأمهات بوجه يصح وكأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فإنهن أمهات لما لهن من حق الإكرام والاحترام والإعظام ما لم يكن لغيرهن لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعظم في أبوة الدين من أب النسب [و]كذلك المرضعات لما لهن من الإرضاع [ ص: 345 ] الذي هو وظيفة الأم بالأصالة، وأما الزوجة فمباينة لجميع ذلك.
ولما فرغ من تعليل الشق الأول على أتم وجه، أتبعه تعليل الآخر كذلك، فقال عاطفا عليه مؤكدا لأنهم كانوا قد ألفوا قوله فأشربته قلوبهم: وإنهم أي المظاهرين ليقولون أي في هذا التظهر على كل حالة منكرا من القول ينكره الحقيقة والأحكام، قال ابن الملقن في عمدة المحتاج: وهو حرام اتفاقا كما ذكره الرافعي في الشهادات. وزورا أي قولا مائلا عن السداد، منحرفا عن القصد، لأن الزوجة معدة للاستمتاع الذي هو في الغاية من الامتهان، والأم في غاية البعد عن ذلك لأنها أهل لكل احترام، فلا هي أم حقيقة ولا شبيهة بها بأمر نصبه الشارع للاحترام كالإرضاع، وكونها فراشا لعظيم كالنبي أو للأب أو للحرمة كاللعان، فقد علم أن ذلك الكلام ليس بصدق ولا جاء به مسوغ، فهو زور محض، وأخصر من هذا أن يقال: ولما كان ظهارهم هذا يشتمل على فعل وقول، وكان الفعل هو التحريم الذي هو موضع وجه الشبه، [وكانت العادة في وجه الشبه] أن يقنع منه بأدنى ما ينطلق عليه الاسم، وكانوا قد خالفوا ذلك فجعلوه في أعلى [ ص: 346 ] طبقاته وهو الحرمة المؤبدة التي يلزم منها أن تكون المشابهة من كل وجه في الحرمة مع أن ذلك بغير مستند من الله تعالى الذي لا حكم لغيره، ألزمهم أن يكون الشبه من كل وجه مطلقا ليكونوا جاعلين الزوجة إما حقيقة لا دعوى كما جعلوا الحرمتين [كذلك من غير فرق بل أولى لأن الشبه إنما وقع بين الحيثيتين لا بين الحرمتين -] ثم وقفهم على جهلهم فيه فقال ما هن إلى آخره، ولما وقفهم على جهلهم في الفعل وقفهم على جهلهم في القول: فقال: [و]أنهم إلى آخره، قال النووي في الروضة: قال الأصحاب: وله حكمان: أحدهما تحريم الوطئ إذا وجبت الكفارة إلى أن يكفر، والثاني وجوب الكفارة بالعود - انتهى. وهذا القول وإن أفاد التحريم فإنه يفيد لكونه ممنوعا منه على وجه ضيق حرج المورد عسر المخرج ليكون عسره زاجرا عن الوقوع فيه، قال الظهار حرام، في ديوانه الجامع: وظاهر الرجل امرأته وظاهر من امرأته إذا قال: أنت علي كظهر أمي أو كذات محرم، وإنما استخصوا الظهر في الظهار لأن الظهر موضع الركوب، والمرأة مركب الرجل في النكاح فكني به عن ذلك، فكأنه قال: ركوبك علي للنكاح كركوب أمي، وكان الظهار في الجاهلية طلاقا، ولذلك أشكل معنى قوله تعالى أبو عبد الله القزاز ثم يعودون لما قالوا وقال ابن الأثير في النهاية: ظاهر الرجل [من] [ ص: 347 ] امرأته ظهارا وتظهر وتظاهر [إذا قال لها: أنت علي كظهر أمي، وكان في الجاهلية طلاقا]، وقيل: إنهم أرادوا أنت علي كبطن أمي أي كجماعها، فكنوا بالظهر عن البطن للمجاورة، وقيل إن إتيان المرأة وظهرها إلى السماء كان حراما عندهم، وكان أهل المدينة يقولون: إذا أتيت المرأة ووجهها إلى الأرض جاء الولد أحول، فلقصد الرجل المطلق منهم إلى التغليظ في تحريم امرأته عليه شبهها بالظهر ثم لم يقنع بذلك حتى جعلها كظهر أمه، وإنما عدى الظهار بـ " من " لأنهم كانوا إذا ظاهروا المرأة تجنبوها كما يتجنبون المطلقة ويحترزون منها، فكأن قوله: ظاهر من امرأته، أي بعد واحترز منها كما قيل: آلى من امرأته، لما ضمن معنى التباعد عدى بـ " من " -[ انتهى]، قال: وقال ابن الملقن في العمدة شرح المنهاج: وكان طلاقا في الجاهلية، ونقل عن صاحب الحاوي أنه عندهم لا رجعة فيه، قال: فنقل الشارع حكمه إلى تحريم بعد العود ووجوب الكفارة - انتهى وقال أبو حيان : قال أبو قلابة [وغيره]: كان الظهار في الجاهلية يوجب عندهم فرقة مؤبدة.
ولما كان التقدير: فإن الله حرمه، عطف عليه مرغبا في التوبة وداعيا إليها قوله مؤكدا لأجل ما يعتقدون من غلظه وأنه لا مثنوية فيه [ ص: 348 ] وإن الله أي الملك الأعظم [الذي] لا أمر لأحد معه في شرع ولا غيره لعفو من صفاته أن يترك عقاب من شاء غفور من صفاته أن يمحو عين الذنب وأثره حتى أنه كما لا يعاقب عليه لا يعاتب، فهل من تائب طلبا للعفو عن زلله، والإصلاح لما كان من خلله.