[ تفريع ]
الأمر الثالث : أن مما يتفرع على هذا الخلاف تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة ، فمن ذهب إلى إجرائه على العموم قبل البحث [ ص: 60 ] عن المتخصص كالصيرفي ، قال : ، ومن منع اقتضاء عمومه ، أجاز لا يجوز أن يتأخر عنه بيان الخصوص ، إن كان ثم مراد كما يمتنع تأخير الاستثناء . وكذا ذكره تأخير البيان عن وقت الورود في كتابه ، فقال : من ذهب إلى الاقتضاء بنفس السماع ، قال : لا يجوز أن يتأخر عنه بيان الخصوص إن كان ثم مراد ، ومن أبى المبادرة إلى الإمضاء جوزه وكذا قال ابن فورك إلكيا الهراسي ، وهذا موافق لأصل الصيرفي ، فإنه ممن يمنع تأخير البيان عن وقت الحاجة ، كما سبق التصريح به في صدر كلامه . وهكذا نقله عنه الجمهور ، ولكن إمام الحرمين نقل عنه هنا أنه يجوز ، واستدل عليه بأنه من الرادين عليهم في كتبه ، فألزمه التناقض ، فقال : القول بالإجراء على العموم إنما يليق بمذهب من يمنع تأخير البيان ، أما من يجوزه فلا ، فالقول بجواز ورود المخصص مع القول بوجوب العموم تناقض . وقد علمت أن تأخير البيان عن وقت الحاجة الصيرفي صرح في صدر كلامه في هذه المسألة بمنع تأخير البيان عن وقت الحاجة ، فالذي ذكره مستقيم ، وكذا نقله عنه ابن الصباغ في العدة وغيره . وقول الإمام : إنه من الرادين على مانعي تأخير البيان في تصانيفه صحيح ، ولكن في غير مسألة تأخير البيان ، نعم ، سيأتي عن الأستاذ أبي إسحاق رجوع الصيرفي عن هذا المذهب ، ولم يقف جماعة على تحرير النقل عن الصيرفي في مسألة تأخير البيان ، وظنوا صحة ما نقله عنه الإمام فأخذوا في تأويل كلامه .
قال المازري : قد أغلظ الإمام القول على الصيرفي ، ونسبه إلى الغباوة ، وهو غير لائق ، فإنه إمام جليل مع إمكان تأويل كلامه . [ ص: 61 ]
قال المقترح : لا تناقض ، لعدم تواردهما على محل واحد ، فإن محل الاعتقاد إنما هو وجوب العمل بالعموم ، والتجويز راجع إلى تبين مراد اللفظ . انتهى . وهذا بناء منه على أن الصيرفي كلامه في وجوب العمل لا الاعتقاد ، والإمام بنى اعتراضه على أن كلام الصيرفي في الاعتقاد ، وقد سبق تحريره .
وقال الصفي الهندي : لا نسلم أن الجزم باعتقاد العموم إنما يليق بمذهب المانع من تأخير البيان ، بل التناقض المذكور لازم لهم أيضا إلا من لم يجوز سماع المكلف العام دون الخاص ، فإن التناقض المذكور إنما يندفع عنهم لا غير ، وهذا لأنهم وإن أوجبوا اتصال المخصص بالعام في الورود ، لكنهم لم يوجبوا وصوله إلى من يصل إليه العام ، فيحتمل أن يظهر المخصص للمكلف بعد سماع العام ، وإن كانا عند الورود مقترنين ، ومع هذا الاحتمال والتجويز كيف يجب عليه القطع بالعموم ؟ [ الغزالي ينقل الإجماع على وجوب البحث قبل الحكم بالعام ]
الأمر الرابع : قيل : إن الغزالي خالف طريقة الناس في هذه المسألة ، فقال في " المستصفى " : لا خلاف أنه لا يجوز المبادرة إلى الحكم بالعموم قبل البحث عن الأدلة المخصصة ، لأن العموم دليل بشرط انتفاء المخصص ، والشرط بعد لم يظهر ، وكذلك كل دليل يمكن فيه المعارضة ، وذلك كإلحاق الفرع بالأصل في القياس ، فالعلة دليل بشرط العلم بنفي الفارق . وقد تبعه على ذلك الآمدي ، فنقلا الإجماع على امتناع [ ص: 62 ] العمل بالعام قبل البحث عن كل ما يمكن أن يكون مخصصا ، وغلطهما وابن الحاجب الشيخ تقي الدين في " شرح العنوان " متمسكا بكلام السابق ومن نقل الخلاف مقدم على من نقل الإجماع لمزيد الاطلاع . انتهى . الشيخ أبي إسحاق
قلت : وهذا لا ينافي نقل الخلاف ، فقد بينا أن ذلك طريقة في المذهب قاطعة بذلك ، وطريقة حاكية للخلاف ، على أن من الناس من عكس هذه الطريقة ، فقال : المعروف ما ذكره الغزالي ومن تبعه ، وخلاف الصيرفي إنما هو في اعتقاد عمومه قبل دخول وقت العمل به ، وإذا ظهر مخصص يتغير الاعتقاد ، هكذا نقله عنه إمام الحرمين والآمدي وغيرهما . وعلى هذا فنصب الخلاف على التمسك بالعام قبل البحث عن المخصص كما نقله الإمام فخر الدين وأتباعه غلط بل هما مسألتان : اعتقاد العموم وهي مسألة خلاف الصيرفي ، وامتناع التمسك به قبل البحث عن المخصص ، وهي مسألة إجماع . واستشكل آخرون الاتفاق على امتناع العمل مع إيجاب البعض اعتقاد عمومه ، إذ لا يظهر لوجوب اعتقاد عمومه فائدة إلا العمل به فعلا أو كفا ، فلو قيل : قاتلوا الكفار ، أو اقتلوهم ، واعتقدنا عمومه ، وجب علينا العمل بموجبه في قتالهم ، حتى يأتي المخصص ، وإن لم يكن الأمر هكذا لم يكن لوجوب اعتقاد عمومه فائدة والصواب أن الخلاف ثابت في الحالين ، [ ص: 63 ] وممن نصب فيهما في " شرح اللمع " فقال : هل يجب اعتقاد عمومها والعمل بموجبها ؟ قال الشيخ أبو إسحاق الصيرفي : يجب الأخير ، وقد سبق توهم إمام الحرمين تخصيص النقل عنه بذلك .
وقال بعض شراح " اللمع " : يجب اعتقاد عمومها في الأزمان والأعيان بلا خلاف ، وهل يجب اعتقاد عمومها والعمل بموجبها قبل البحث عن المخصص ؟ فيه الوجهان ، وأيضا فالكل متفقون في النقل عن الصيرفي أنه يجب اعتقاد عمومه ، ومع الجزم بالعموم يستحيل أن لا يجوز التمسك به ، فكيف يستقيم نقل الإجماع في منع التمسك به ، وكيف تجعل مسألة اعتقاد العموم غير مسألة جواز التمسك به هو لازمه ، ، وهذا مما لا يعقل ، وأيضا القول بجواز التمسك به أولى وأظهر من وجوب اعتقاد عمومه ، ثم حين ظهور المخصص يتغير الاعتقاد ، فإنه مذهب ضعيف أغلظ إمام الحرمين القول فيه بسببه ، بخلاف العمل بالعام ابتداء فإن له وجها وجيها .
قال الأصفهاني في " شرح المحصول " : هما مسألتان : إحداهما قبل مجيء وقت العمل ، والحق فيها ما اختاره إمام الحرمين أن العموم ظاهر ، والعمل مقطوع به .
وثانيتهما : عند وقت العمل به ، وهي مسألة الغزالي ، والحق فيها ما اختاره . والذي يتحصل من كلامهم أنه لا يجوز الهجوم على العمل بمقتضى العموم دون البحث عن المخصص . وأما الخلاف المحكي عن الصيرفي وابن سريج فهو حكم مقتضى العموم ابتداء ، ويعتمد على ظهور التخصيص ابتداء ، والخلاف في العام في إجرائه على عمومه ، وفي الخاص في إجرائه [ ص: 64 ] على حقيقة واحدة ، فمن أوجب الاستقصاء عن المخصص أوجب البحث عن المقتضى بحمل اللفظ على المجاز . وهكذا جعل الهندي خلاف الصيرفي قبل حضور وقت العمل به .
قال : فإن حضر وقته وجب العمل به إجماعا لكن مع الجزم بعدم المخصص عند جمع ، ومع ظنه عند آخرين كالقاضي كإمام الحرمين وابن سريج والغزالي وهو الأولى ، انتهى . وقد سبق أن الصيرفي والجمهور أطلقوا النقل عنه من غير فرق بين حضور وقت العمل به أم لا ، ونقله الإجماع في الحالة الثانية لا يستقيم لما سيأتي من كلام ابن الصباغ . قال إمام الحرمين : إذا حضر وقت العمل بالعام ، فقد يقطع المكلف بمقتضى العموم لقرائن تتوفر عنده ، فيصير العام كالنص ، وقد لا يقطع بذلك لعدم القرائن المفيدة للقطع ، بل يغلب على ظنه العموم فيعمل بناء على غلبة الظن كما في خبر الواحد والقياس .