( الفرق التاسع والستون والمائتان بين قاعدة ما يباح في عشرة الناس من المكارمة وقاعدة ما ينهى عنه من ذلك ) اعلم أن قسمان الذي يباح من إكرام الناس
( القسم الأول ) : ما وردت به نصوص الشريعة من إفشاء السلام وإطعام الطعام وتشميت العاطس والمصافحة عند اللقاء والاستئذان عند الدخول ، وأن لا يجلس على تكرمة أحد إلا بإذنه أي على فراشه ، ولا يؤم في منزله إلا بإذنه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم { } ونحو ذلك مما هو مبسوط في كتب الفقه لا يؤمن أحد أحدا في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه
( القسم الثاني ) ما لم يرد في النصوص ولا كان في السلف ؛ لأنه لم تكن أسباب اعتباره موجودة حينئذ وتجددت في عصرنا فتعين فعله لتجدد أسبابه ؛ لأنه شرع مستأنف بل علم من القواعد الشرعية أن هذه الأسباب لو وجدت في زمن الصحابة لكانت هذه المسببات من فعلهم وصنعهم وتأخر الحكم لتأخر سببه ووقوعه عند وقوع سببه لا يقتضي ذلك تجديد شرع [ ص: 251 ] ولا عدمه كما لو أنزل الله - تعالى - حكما في اللواط من رجم أو غيره من العقوبات فلم يوجد اللواط في زمن الصحابة ووجد في زمننا اللواط فرتبنا عليه تلك العقوبة لم نكن مجددين لشرع بل متبعين لما تقرر في الشرع ، ولا فرق بين أن نعلم ذلك بنص أو بقواعد الشرع وهذا القسم هو ما في زماننا من القيام للداخل من الأعيان وإحناء الرأس له إن عظم قدره جدا والمخاطبة بجمال الدين ونور الدين وعز الدين وغير ذلك من النعوت والإعراض عن الأسماء والكنى والمكاتبات بالنعوت أيضا كل واحد على قدره وتسطير اسم الإنسان بالمملوك ونحوه من الألفاظ والتعبير عن المكتوب إليه بالمجلس العالي والسامي والجناب ونحو ذلك من الأوصاف العرفية والمكاتبات العادية ومن ذلك ترتيب الناس في المجالس والمبالغة في ذلك ، وأنواع المخاطبات للملوك والأمراء والوزراء وأولي الرفعة من الولاة والعظماء فهذا كله ونحوه من الأمور العادية لم تكن في السلف .
ونحن اليوم نفعله في المكارمات والمولاة ، وهو جائز مأمور به مع كونه بدعة ولقد حضرت يوما عند الشيخ عز الدين بن عبد السلام وكان من أعيان العلماء وأولي الجد في الدين والقيام بمصالح المسلمين خاصة وعامة والثبات على الكتاب والسنة غير مكترث بالملوك فضلا عن غيرهم لا تأخذه في الله لومة لائم فقدمت إليه فتيا فيها : ما تقول أئمة الدين - وفقهم الله - في القيام الذي أحدثه أهل زماننا مع أنه لم يكن في السلف هل يجوز أم لا يجوز ويحرم فكتب إليه في الفتيا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { } وترك القيام في هذا الوقت يفضي للمقاطعة والمدابرة فلو قيل : بوجوبه ما كان بعيدا هذا نص ما كتب من غير زيادة ، ولا نقصان فقرأتها بعد كتابتها فوجدتها هكذا ، وهو معنى قول لا تباغضوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تدابروا ، ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا تحدث للناس أقضية على قدر ما أحدثوا من الفجور أي يحدثوا أسبابا يقتضي الشرع فيها أمورا لم تكن قبل ذلك لأجل عدم سببها قبل ذلك لا ؛ لأنها شرع متجدد كذلك ها هنا فعلى هذا القانون يجري هذا القسم بشرط أن لا يبيح محرما ، ولا يترك واجبا فلو كان الملك لا يرضى منه إلا بشرب الخمر أو غيره من المعاصي لم يحل لنا أن نواده بذلك . عمر بن عبد العزيز
وكذلك غيره من الناس ، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وإنما هذه الأسباب المتجددة كانت مكروهة من غير تحريم فلما [ ص: 252 ] تجددت هذه الأسباب صار تركها يوجب المقاطعة المحرمة وإذا تعارض المكروه والمحرم قدم المحرم والتزم دفعه وحسم مادته ، وإن وقع المكره هذا هو قاعدة الشرع في زمن الصحابة وغيرهم وهذا التعارض ما وقع إلا في زماننا فاختص الحكم به وما خرج عن هذين القسمين إما محرم فلا تجوز الموادة به أو مكروه فلم يحصل فيه تعارض بينه وبين محرم منهي عنه نهي تنزيه قلت : فينقسم القيام إلى خمسة أقسام محرم إن فعل تعظيما لمن يحبه تجبرا من غير ضرورة ومكروه إذا فعل تعظيما لمن لا يحبه ؛ لأنه يشبه فعل الجبابرة ويوقع فساد قلب الذي يقام له ، ومباح إذا فعل إجلالا لمن لا يريده ، ومندوب للقادم من السفر فرحا بقدومه ليسلم عليه أو يشكر إحسانه أو القادم المصاب ليعزيه بمصيبته ؛ وبهذا يجمع بين قوله عليه السلام { } وبين قيامه عليه السلام من أحب أن يتمثل له الناس أو الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار لما قدم من لعكرمة بن أبي جهل اليمن فرحا بقدومه ، وقيام طلحة بن عبد الله ليهنئه بتوبة الله - تعالى - عليه بحضوره عليه السلام ولم ينكر النبي عليه السلام عليه ذلك فكان لكعب بن مالك كعب يقول : لا أنساها { لطلحة } فكانوا إذا رأوه لم يقوموا له إجلالا لكراهته لذلك وإذا قام إلى بيته لم يزالوا قياما حتى يدخل بيته صلى الله عليه وسلم لما يلزمهم من تعظيمه قبل علمهم بكراهة ذلك ، وقال عليه السلام وكان عليه السلام يكره أن يقام له للأنصار { } قيل تعظيما له ، وهو لا يحب ذلك . قوموا لسيدكم
وقيل : ليعينوه على النزول عن الدابة قلت : والنهي الوارد عن محبة القيام ينبغي أن يحمل على من يريد ذلك تجبرا أما من أراده لدفع الضرر عن نفسه والنقيصة به فلا ينبغي أن ينهى عنه ؛ لأن محبة دفع الأسباب المؤلمة مأذون فيها بخلاف التكبر ، ومن أحب ذلك تجبرا أيضا لا ينهى عن المحبة والميل لذلك الطبيعي بل لما يترتب عليه من أذية الناس إذا لم يقوموا ومؤاخذتهم عليه فإن الأمور الجبلية لا ينهى عنها فتأمل ذلك فقد ظهر الفرق بين المشروع من الموادة وغير المشروع
[ ص: 251 - 252 ]