( الفرق التاسع والستون والمائة بين قاعدة ضم الشهادتين في الأقوال وبين قاعدة عدم ضمها في الأفعال )
اعلم أن مالكا رحمه الله قال إذا شهد أحدهما أنه حلف أن لا يدخل الدار وأنه دخل وشهد الآخر أنه لا يكلم زيدا وأنه كلمه حلف المشهود عليه فإن نكل سجن ؛ لأن الشاهدين لم يتفقا على متعلق واحد .
وكذلك إذا اختلفا في العتق على هذه الصورة ، وقال إذا شهد أحدهما أنه طلقها بمكة في رمضان وشهد الآخر أنه طلقها بمصر في صفر طلقت ، وكذلك العتق قال ابن يونس ويشترط أن [ ص: 178 ] يكون بين البلدين مسافة يمكن قطعها في الأجل الذي بين الشهادتين وتضبط عدتها من يوم شهادة الأخير ، قلت وينبغي حمل كلامه على العدة في القضاء أما في الحكم فما تعتقده الزوجة في تاريخ الطلاق .
وقال اللخمي قيل تضم الشهادتان في الأقوال والأفعال أو إحداهما قول والأخرى فعل ويقضي بها ، وقيل لا يضمان مطلقا ، وقيل يضمان في الأقوال فقط ، وقيل يضمان إذا كانتا على فعل فإن كانت إحداهما على قول والأخرى على فعل لم يضما والأقوال كلها لمالك رحمه الله واعتمد الأصحاب في الفرق بين الأقوال والأفعال أن الأقوال يمكن تكررها ويكون الثاني خبرا عن الأول والأفعال لا يمكن تكررها إلا مع التعدد ، وهذا الفرق فيه بحث وذلك أن الأصل في الاستعمال الإنشاء وتجديد المعاني بتجدد الاستعمالات والتأسيس حتى يدل دليل على التأكيد ؛ لأنه مقصود الوضع ومقتضى هذه القاعدة عدم ضم الأقوال والأفعال لعدم وجود النصاب في لفظ واحد منها لكن عارض هذه القاعدة قاعدة أخرى وهي أن أصل قولنا أنت طالق وأنت حر الخبر عن وقوع [ ص: 179 ] الطلاق والعتاق قبل زمن من النطق ، وكذلك بعت واشتريت وسائر صيغ العقود وإنما ينصرف لاستحداث هذه المعاني بالقرائن أو النقل العرفي .
وإنما الأصل الخبر فشهادتهما بالقرائن شهادة بقول يصلح للإخبار والإنشاء فيحمل القول الثاني على الإخبار في المرة الثانية عملا بقاعدة ترجيح الأصل الذي هو الخبر والحمل على الأصل أولى ولذلك شبه الأصحاب بما لو أقر بمال في مجالس فإنه لا يتعدد عليه ما أقر به [ ص: 180 ] أما لو فرضنا كل واحد من الشاهدين صمم على الإنشاء فيما سمعه كانت الأقوال كالأفعال في مقتضى كلام الأصحاب ومقتضى القواعد ، فيكون سر الفرق على المشهور أنه أنشأ أولا وأخبر [ ص: 181 ] ثانيا عن ذلك الإنشاء ولما كان لفظ الإنشاء ولفظ الخبر صورتهما واحدة شرع ضم الثاني إلى الأول فيجتمع النصاب في شيء واحد فيلزم الطلاق والعتاق ، وأما الفعل الثاني فلا يمكن [ ص: 182 ] أن يكون عين الأول ؛ لأنه لا يصلح أن يكون خبرا عنه فإن الخبر من خصائص الأقوال فصار مشهودا به آخر يحتاج إلى نصاب كامل في نفسه فهذا هو سر الفرق ، ومن لاحظ قاعدة الإنشاء قال بعدم الضم فيهما وهو ظاهر لإجماعنا على أن اللفظ الأول محمول على الإنشاء لا على الخبر وما يقضي إلا به .
ولو كان المعتبر فيه الخبر دون الإنشاء أو هو متردد بينهما على السواء لم يقض بالطلاق ولا بالعتاق ألبتة كما نفعله في جميع الألفاظ المترددة ، وأما ضم الأفعال مع تعذر الإخبار فيها فملاحظة للمعنى دون خصوص السبب فإن كل شاهد شهد بأنها مطلقة وبأي سبب كان ذلك لا يعرج عليه ، ولو صرحا بالطلاق هكذا انضمت الشهادات .
وأما عدم الضم إذا كانت إحداهما على قول والأخرى على فعل فلأن ذلك مختلف الجنس والضم إنما يكون في الجنس الواحد وضم الشيء إلى جنسه أقرب من ضمه إلى غير جنسه ، وإذا شهد بتعليقين على شيء واحد في زمانين كرمضان وصفر كما قال فإنه يجعل التعليق الثاني خبرا عن التعليق الأول لا إنشاء للربط ، بل إخبارا عن ارتباط الطلاق بذلك المعنى وفي الأول أنشأ الربط به فالقول في ألفاظ التعاليق كالقول في ألفاظ الإنشاءات حرفا بحرف ( تفريع ) قال اللخمي لو شهد أحدهما بالثلاث قبل أمس والثاني باثنتين أمس والثالث بواحدة اليوم لزم الثلاث ؛ لأن ضم الثاني للأول يوجب اثنتين قبل سماع الثالث ، فلما سمعه الثالث ضم للباقي من الأول [ ص: 183 ] وكذلك لو شهد الثاني بواحدة والأخير باثنتين ؛ لأن الثاني مع الأول طلقتان يضم إليهما طلقة أخرى .
وكذلك لو شهد الأول باثنتين والثاني بثلاث والأخير بواحدة هذا إذا علمت التواريخ فإن جهلت يختلف في لزوم الثلاث أو اثنتين ؛ لأن الزائد عليهما من باب الطلاق بالشك .
وقال أبو حنيفة رحمه الله إذا شهد أحدهما بطلقة والآخر بأكثر لم يحكم بشيء لعدم حصول النصاب في شهادة منهما فلو شهد أحدهما ببائنة والآخر برجعية ضمت الشهادتان لأن الاختلاف هاهنا إنما هو في الصفة قال مالك في المدونة إذا شهد أحدهما أنه قال في محرم إن فعلت كذا فامرأتي طالق وشهد الآخر أنه قال ذلك في صفر وشهدا عليه أو غيرهما بالفعل بعد صفر طلقت لاتفاقهما على التعليق والمعلق عليه كما لو اتفقا على المقر به ، ولو اختلفا في زمن الإقرار وإن شهدا في مجلس التعليق وشهد أحدهما أنه فعل يوم الجمعة الشرط والآخر أنه فعله يوم السبت طلقت لاتفاقهما على التعليق ووقوع الشرط ، وكذلك لو نسبا قوله لمكانين واعلم أن هذه الإطلاقات إنما تصح إذا حمل الثاني على الخبر أما لو صمم كل واحد على الإنشاء فلا يوجد في هذه المسألة على هذا التقدير الضم في الشهادات وإنما وجد في الإطلاقات المحتملة على ما تقدم بيانه على تلك القواعد المتقدمة [ ص: 184 ]


