( الفرق الرابع والثلاثون بين قاعدة المعاني الفعلية وبين قاعدة المعاني الحكمية )
وتحريره أن ونعني بالفعلي وجوده في زمان وجوده وتحققه دون زمان عدمه ونعني بالحكمي حكم صاحب الشرع على فاعله بعد عدمه بأنه من أهل ذلك الوصف وفي حكم الموصوف به دائما حتى يلابس ضده ولذلك مثل أحدهما ما من معنى مأمور به في الشريعة ولا منهي عنه إلا وهو منقسم إلى فعلي وحكمي فهذا هو الإيمان الفعلي فإذا غفل عنه بعد ذلك حكم [ ص: 201 ] صاحب الشرع عليه بأنه مؤمن وله أحكام المؤمنين في الدنيا والآخرة . وثانيها الإيمان إذا استحضره الإنسان في قلبه فهذا هو الكفر الفعلي فإذا غفل عنه بعد ذلك حكم صاحب الشرع بأنه كافر وله أحكام الكفار في الدنيا والآخرة من إباحة الدم واستحقاق العقوبات وغير ذلك ومن ذلك قوله تعالى { الكفر إذا استحضره الإنسان في قلبه إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم } فإن كل واحد لا يأتي يوم القيامة وهو كافر الكفر الفعلي لأن كل كافر عند المعاينة يضطر للإيمان فلا يأتي يوم القيامة إلا وهو مؤمن بالفعل والإيمان الفعلي ينافي الكفر الفعلي فهو غير كافر بالفعل ، مؤمن بالفعل غير أنه لا ينفعه ذلك الإيمان وإنما ينفعه إذا وقع قبل المعاينة والاضطرار إليه
وثالثها فهذا هو الإخلاص الفعلي فإذا غفل عنه بعد ذلك حكم صاحب الشرع عليه بأنه من المخلصين في الدنيا والآخرة حتى يخطر له الرياء وهو ضد الإخلاص فينتفي ذلك الحكم كما ينتفي الحكم بالإيمان بسبب ملابسة الكفر والحكم بالكفر بسبب ملابسة الإيمان ورابعها الإخلاص يقع من العبد أول العبادة تحصل في قلب العبد فهذه هي النية الفعلية فإذا غفل عنها في أثناء الصلاة أو غيرها من العبادات حكم صاحب الشرع بأنه ناو وله أحكام الناوين لتلك العبادات حتى يفرغ منها وكذلك جميع المعاني المنهي عنها والمأمور بها من الكبر والعجب وحب السمعة والإذلال وقصد الفساد وإرادة العناد ونحوه من المنهيات وحب المؤمنين وبغض الكافرين وتعظيم رب العالمين والأنبياء والمرسلين وقصد نفع الإخوان وإرادة البعد عن حرمات الرحمن وغير ذلك من المأمورات فكل من خطر بباله معنى من هذه المعاني ثم غفل عنها كان في حكم الشرع من أهل ذلك المعنى حتى يلابس ضده فهذه قاعدة في هذه الفروق مجمع عليها والحكميات أبدا في هذا الباب فرع الفعليات . وهاهنا خمس مسائل ( المسألة الأولى ) النية في أول الصلاة والطهارة والصوم ونحوه من العبادات
مات مؤمنا ولا يضره عدم الإيمان الفعلي عند الموت كما أن الكافر إذا حضرته الوفاة أخرس ذاهب العقل عاجزا عن الكفر في تلك الحال لعدم صلاحيته له لا ينفعه ذلك وحكمه عند الله حكم الذين استحضروا الكفر في تلك الحال بالفعل فالمعتبر ما تقدم من كفر وإيمان ولا يضر العدم في المعنى عند الموت . من خرس لسانه عند الموت وذهب عقله فلم ينطق بالشهادة عند الموت ولا أحضر الإيمان بقلبه ومات على [ ص: 202 ] تلك الحالة
( المسألة الثانية )
إذا لا ينضاف سجود الثانية لركوع الأولى إلا أن يقصد به إضافته للأولى ولا تكفيه النية الفعلية المقارنة لأول الصلاة بسبب أن النية الحكمية هي فرع الفعلية على حسب ما كانت عليه والنية الفعلية الأولى إنما تناولت الفعل الشرعي لا بوصف كونه مرقعا بل على مجاري العادة في الأكثر فهذه الصلاة المرقعة الخارجة عن نمط العادة لا تتناولها النية الحكمية لأنها فرع الفعلية والفعلية لم تتناولها فكذلك الحكمية التي هي فرع الفعلية لا تتناول إلا الصلاة المرتبة العادية لا الصلاة المرقعة فبقيت المرقعة بغير نية فعلية ولا حكمية فاحتاجت إلى نية مجددة للترقيع ولأن المرقعة المتروك ركوعها وسجودها حتى ينضاف إليها سجود من ركعة أخرى غير مشروعة إجماعا وغير المشروع قربة لا ينوى شرعا فليس فيها نية فعلية قطعا وليس لها نية حكمية قطعا فإن الشرع إنما يحكم باستصحاب ما تقدم من النية فإذا لم تتقدم نية شرعية لا يحكم الشرع باستصحابها قطعا فهذه المرقعة خالية من النية قطعا فتحتاج إلى نية إجماعا لأنه لا بد للصلاة من النية إجماعا فهذا تقرير ظاهر قطعي فيعتمد عليه أولى من الاعتماد على الأمور الضعيفة التي يذكرها بعض الفقهاء . سها عن السجود في الأولى والركوع في الثانية
( المسألة الثالثة ) إذا فإنه يقوم إلى ركعة خامسة يجعلها عوض الأولى ولا بد لهذه الركعة الخامسة من نية مجددة بأنها عوض عن الأولى وإلا فلا تكون عوضا عن الأولى بالنية المتقدمة أول الصلاة لأنها لم تتناول إلا الصلاة العادية أما المرقعات فلا وكذلك الحكمية التي هي فرعها فلا بد من نية جديدة لأن كل جزء [ ص: 203 ] من أجزاء الصلاة لا بد فيه من نية فعلية أو حكمية فمتى عرا جزء من أجزاء الصلاة عنها بطلت الصلاة ما لم تستدرك بالنية عن قرب . ( المسألة الرابعة ) قال نسي سجدة من الأولى ثم ذكر في آخر صلاته رضي الله عنه في المدونة مالك لم يجزه حتى ينويه من بقيت رجلاه من وضوئه فخاض بهما نهرا فدلكهما فيه بيديه ولم ينو بهما تمام وضوئه قلت وسبب ذلك أن النية الفعلية لم تتناول إلا الوضوء العادي فإن الإنسان أول العبادة أو الوضوء لا يقدم على ترقيع الصلاة ولا ترقيع وضوئه بل إنما يقصد العبادة التي لا ترقيع فيها فالمرقعة لم يتناولها لا النية الفعلية ولا الحكمية التي هي فرع الفعلية فلا تتناول المرقعة ولا المفرقة فبقي جزء العبادة بغير نية مطلقا فتبطل العبادة لعدم شرطها فلأجل هذه القاعدة احتاج الترقيع أبدا إلى النية الفعلية تجدد له فمتى وقع بغير نية تجدد له بقي جزء العبادة بغير نية فتبطل العبادة لاشتراط النية في كل أجزائها فعلية أو حكمية . ( المسألة الخامسة )
فيه قولان هل يؤثر أم لا فإن قلنا بعدم التأثير فلا كلام وإن قلنا يؤثر فوجهه أن هذه النية التي حصل بها الرفض وهي العزم على ترك العبادة لو قارنت النية الفعلية الكائنة أول العبادة لضاددتها ونافتها فإن العزم على الفعل ، والعزم على تركه متضادان وما ضاد الفعلية ضاد الحكمية التي هي فرعها بطريق الأولى فظهر بهذه الفروع الفرق بين المعاني الفعلية والحكمية وأن الحكميات أبدا تابعة فروع الفعليات وأن الفعليات والحكميات إنما تتناول العبادات العاديات دون الطارئات وأن التلفيات تحتاج إلى نية جديدة أبدا لعدمها فيها وهو المطلوب . . رفض النية في أثناء العبادات