( المسألة الثالثة ) وقع في المذهب رحمه الله ولأصحابه في كتاب التهذيب وغيره أن لمالك قال فيها قول القائل حبلك على غاربك يلزمه الطلاق الثلاث ولا تقبل نيته إن أراد أقل منها وخلية وبرية وبائنة قال مني أو منك أو لم يقل أو أبنتك أو رددتك قال مالك ابن عبد العزيز ثلاث في المدخول بها ولا ينوي في أقل منها ، وينوي في غير المدخول بها في طلقة فأكثر فإن لم ينو فثلاث .
وقال ربيعة الخلية والبرية والبائن ثلاث في المدخول بها وواحدة في غير المدخول بها ، قال ابن القاسم وأما فلا ينوي قبل الدخول ولا بعده بل يلزمه الثلاث ، وإذا قوله أنا منك بائن أو أنت مني بائنة فإن تقدم من كلامه ما يكون هذا جوابا له صدق ، وإلا فلا فهذا كله نقل التهذيب . قال في الخلية والبرية والبائن لم أرد طلاقا
وقال النية نافعة فيما ينويه من تعدد وقال الشافعي إن نوى الثلاث لزمه الثلاث أو واحدة فواحدة بائنة ، وكذلك قولاهما في حبلك على غاربك . أبو حنيفة
وقال يقع الطلاق بالخلية والبرية والبائن وحبلك على غاربك والحقي بأهلك والبتة والبتلة بغير نية لشهرتها ، ويلزم بالخلية والبرية [ ص: 41 ] والحرام والحقي بأهلك وحبلك على غاربك ولا سبيل لي عليك وأنت علي حرام واذهبي فتزوجي وغطي شعرك وأنت حرة الثلاث . ابن حنبل
قال في ذلك كله واحدة بائنة قال أبو حنيفة ابن العربي من أصحابنا في كتاب القبس له الصحيح أن حبلك على غاربك والبائن والخلية والبرية والبتلة والبتة واحدة ولا تزيد على قولك أنت طالق ، وفي الترمذي عن عن أبيه عن جده قال { ابن كنانة } ، قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله إني طلقت امرأتي ألبتة فقال ما أردت فقلت واحدة فقال هي ما أردت فردها إليه ابن يونس قال ابن القاسم إن قال وهبت لك صداقك يلزمه ألبتة ولا ينوي .
وقال في الكتاب إذا قال بائن مني أو بريء أو خلية لا يصدق في عدم إرادته الطلاق إلا بقرينة تصدقه ، وإذا مالك تحرم عليه أزواجه نواهن أم لا إلا أن يخرجهن بنيته أو بلفظه ولا يحرم عليه غيرهن ، قال قال كل حلال علي حرام ابن يونس قال الحلال علي حرام أو حرام علي ما أحله الله أو كل ما انقلب إليه حرام كله تحريم . أصبغ
وقال ابن عبد الحكم في حرام لا شيء عليه إذا كان في بلد لا يريدون به الطلاق ، وقال ابن القاسم : إن أراد بقوله أنت حرام الكذب بالإخبار عن كونها حراما وهي حلال حرمت ولا ينوي . قال صاحب الاستذكار في الحرام أحد عشر قولا قال : يلزمه الثلاث في المدخول بها وينوي في غير المدخول بها ، وقال مالك : لا يلزمه شيء حتى ينوي واحدة فتكون رجعية . الشافعي
وإن نوى تحريمها بغير طلاق لزمه كفارة يمين ولا يكون موليا ، وقال إن نوى الطلاق فواحدة وإن نوى اثنتين أو الثلاث فواحدة بائنة ، وإن لم ينو فكفارة يمين وهو مول ، وإن نوى الكذب فليس بشيء ، وقال أبو حنيفة سفيان إن نوى واحدة فبائنة أو الثلاث فالثلاث أو يمينا فيمين ولا فرقة ولا يمين بكذبة لا شيء فيها .
وقال الأوزاعي له ما نوى وإلا فيمين تكفر وقال : كفارة الظهار ولا يطؤها حتى يكفر ، وقيل يمين يكفرها ما يكفر اليمين لقول الله تعالى { إسحاق يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } إلى قوله { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } { مارية } وقال وكان عليه السلام قد حرم سريته الشعبي تحريم المرأة كتحريم المال لا شيء فيه لقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } وقيل واحدة بائنة ، وقال عتق رقبة ، وقال سعيد بن جبير يمين مغلظة وفي الجواهر المشهور لزوم الثلاث وينوي في غير المدخول بها . ابن عباس
وقال عبد الملك لا ينوي وقال ابن عبد الحكم ينوي واحدة في غير المدخول بها وعن واحدة بائنة وإن كانت مدخولا بها . مالك
قال : وأصل اختلاف الأصحاب في الألفاظ أن اللفظ إن تضمن البينونة والعدد نحو أنت طالق ثلاثا لزم الثلاث ولا ينوي اتفاقا في المدخول بها وغير المدخول بها ، أو يدل على البينونة فقط فينظر هل تمكن البينونة بالواحدة أو تتوقف على الثلاث إذا لم تكن معارضة فيه خلاف أو يدل على عدد غالبا ، ويستعمل في غيره نادرا فيحمل على الغالب عند عدم النية وعلى النادر مع وجودها في الفتوى وإن تساوى الاستعمال أو تقارب قبلت نيته في الفتوى والقضاء فإن [ ص: 42 ] عدمت النية فقيل يحمل على الأقل استصحابا للبراءة الأصلية ، وقيل على الأكثر احتياطا ، والمشهور في الحرام أنها تدل على البينونة ، وأنها لا تحصل في المدخول بها إلا بالثلاث وفي غيرها بالواحدة ولكونها غالبة في الثلاث حملت قبل الدخول على الثلاث وينوي في الأقل ، والقول بعدم البينونة بناء على عدم ثبوتها ووضعها للثلاث في العرف كقوله أنت طالق ثلاثا ، والقول بالواحدة البائنة مطلقا بناء على حصول البينونة قبل الدخول وبعد الدخول ، وأنها لا تفيد عددا . الإمام أبو عبد الله المازري
ونقل عن واحدة رجعية بناء على أنها كالطلاق قال وعلى هذه القاعدة تتخرج الفتاوى في الألفاظ ابن مسلمة قلت معنى التحريم في اللغة المنع فقوله أنت علي حرام معناه الإخبار عن كونها ممنوعة فهو كذب لا يلزم فيه إلا التوبة في الباطن والتعزير في الظاهر كسائر أنواع الكذب ليس في مقتضاها لغة إلا ذلك ، وكذلك خلية معناه في اللغة الإخبار عن الخلاء ، وأنها فارغة وأما مم هي فارغة فلم يتعرض اللفظ له ، وكذلك بائن معناه لغة المفارقة في الزمان أوالمكان ، وليس فيه تعرض لزوال العصمة فهي إخبارات صرفة ليس فيها تعرض للطلاق ألبتة من جهة اللغة فهي إما كاذبة وهو الغالب وإما صادقة إن كانت مفارقة له في المكان ، ولا يلزم بذلك طلاق كما لو صرح وقال لها أنت في مكان غير مكاني ، وحبلك على غاربك معناه الإخبار عن كونها حبلها على كتفها ، وأصله أن الإنسان إذا كان يرعى بقرة وقصد التوسعة عليها في المرعى ترك حبلها من يده ووضعه على غاربها وهو كتفها فتنتقل في المرعى كيف شاءت فإذا لم تكن هناك نية كان إخباره عن كون المرأة كذلك كذبا [ ص: 43 ] وإن قصد الاستعارة والمجاز والتشبيه بينها وبين البقرة في أنها تصير مطلقة التصرف لا حجر عليها من قبل الأزواج بسبب زوال العصمة كما تبقى البقرة في مرعاها كذلك فهذا لا يتحقق إلا مع النية كسائر المجازات إذا فقدت فيها النية كان اللفظ منصرفا بالوضع للحقيقة فيصير كذبا .
وكذلك جميع ما ذكر من ألفاظ الطلاق فحينئذ إنما تصير هذه الألفاظ موجبة لما ذكره رحمه الله بنقل العرف لها في رتب أحدها أن ينقلها العرف عن الإخبار إلى الإنشاء . مالك
وثانيها أن ينقلها لرتبة أخرى وهي زوال العصمة بالإنشاء الذي هو إنشاء خاص أخص من مطلق الإنشاء ؛ لأنه لا يلزم من نقلها للإنشاء أن تفيد زوال العصمة ؛ لأن أصل الإنشاء أعم من زوال العصمة فقد يصدق بإنشاء البيع أو العتق أو غير ذلك .
والقاعدة أن الدال على الأعم غير دال على الأخص فلا تدل بنقلها إلى أصل الإنشاء على زوال العصمة بل لا بد من نقلها إلى خصوصه فتفيد زوال العصمة حينئذ ، وثالثها أن ينقلها العرف إلى الرتبة الخاصة من العدد ، وهي الثلاث فإن زوال العصمة أعم من زوالها بالعدد الثالث فهذه رتب ثلاث لا بد من نقل العرف اللفظ إليها حتى يفيد اللفظ الثلاث فهذه الرتب التي أشار إليها رحمه الله بقوله إما أن يكون اللفظ يفيد البينونة أو البينونة مع العدد أو أصل الطلاق [ ص: 44 ] غير أنه قد بقيت في القاعدة التي أشار إليها أغوار لم يفصح بها ، وهو يريدها وهي أمور أحدها أن هذه الألفاظ عرفية لا لغوية ، وأنها تفيد بالنقل العرفي لا بالوضع اللغوي ، وثانيها أن مجرد الاستعمال من غير تكرر لا يكفي في النقل بل لا بد من تكرر الاستعمال إلى غاية يصير المنقول إليه يفهم بغير قرينة . الإمام أبو عبد الله المازري
ويكون هو السابق إلى الفهم دون غيره ، وهذا هو المجاز الراجح فقد يتكرر اللفظ في مجازه ولا يكون منقولا ولا مجازا راجحا ألبتة كاستعمال لفظ الأسد في الرجل الشجاع والبحر في العالم أو السخي والضحى أو الشمس والقمر والغزال في جميل الصورة ، وذلك يتكرر على ألسنة الناس تكرارا كثيرا ، ومع ذلك التكرار الذي لا يحصى عدده لم يقل أحد إن هذه الألفاظ صارت منقولة بل لا تحمل عند الإطلاق إلا على الحقائق اللغوية حتى يدل دليل على أنها أريد بها هذه المجازات ، ولا بد في كل مجاز منها من النية والقصد إلى استعمال اللفظ فيه فعلمنا حينئذ أن النقل لا بد أن يكون بتكرر الاستعمال فيه إلى حد يصير المتبادر منه للذهن والفهم هو المجاز الراجح المنقول إليه دون الحقيقة اللغوية فهذا ضابط في النقل لا بد منه فإذا أحطت به علما ظهر لك الحق في هذه الألفاظ ، وهو أنا لا نجد أحدا في زماننا يقول لامرأته عند إرادة تطليقها حبلك على غاربك ولا أنت برية ولا وهبتك لأهلك هذا لم نسمعه قط من المطلقين ولو سمعناه وتكرر ذلك على سمعنا لم يكف ذلك في اعتقادنا أن هذه الألفاظ منقولة كما تقدم تقريره ، وأما لفظ الحرام فقد اشتهر في زماننا في أصل إزالة العصمة فيفهم من قول القائل أنت علي حرام أو الحرام يلزمني أنه طلق امرأته أما أنه طلقها ثلاثا فإنا لا نجد في أنفسنا أنهم يريدون ذلك في الاستعمال هذا قوله فيما يتعلق بمصر والقاهرة .
فإن كان هناك بلد آخر تكرر الاستعمال عندهم في الحرام أو غيره من الألفاظ الثلاث حتى صار هذا العدد هو المتبادر من اللفظ ، فحينئذ يحسن إلزام الطلاق الثلاث بذلك اللفظ ، وإياك أن تقول إنا لا نفهم منه إلا الطلاق الثلاث ؛ لأن رحمه الله قاله أو لأنه مسطور في كتب الفقه ؛ لأن ذلك غلط بل لا بد أن يكون ذلك الفهم حاصلا لك من جهة الاستعمال والعادة كما يحصل لسائر العوام كما في لفظ الدابة والبحر والرواية فالفقيه والعامي في هذه الألفاظ سواء في الفهم لا يسبق إلى إفهامهم إلا المعاني المنقول إليها فهذا هو الضابط لا فهم ذلك من كتب الفقه فإن النقل إنما يحصل باستعمال الناس لا بتسطير ذلك في الكتب بل المسطر في الكتب تابع لاستعمال الناس فافهم ذلك [ ص: 45 ] إذا تقرر ذلك فيجب علينا أمور أحدها أن نعتقد أن مالكا أو غيره من العلماء إنما أفتى في هذه الألفاظ بهذه الأحكام ؛ لأن زمانهم كان فيه عوائد اقتضت نقل هذه الألفاظ للمعاني التي أفتوا بها فيها صونا لهم عن الزلل ، وثانيها أنا إذا وجدنا زماننا عريا عن ذلك وجب علينا أن لا نفتي بتلك الأحكام في هذه الألفاظ ؛ لأن انتقال العوائد يوجب انتقال الأحكام كما نقول في النقود وفي غيرها فإنا نفتي في زمان معين بأن المشتري تلزمه سكة معينة من النقود عند الإطلاق ؛ لأن تلك السكة هي التي جرت العادة بالمعاملة بها في ذلك الزمان فإذا وجدنا بلدا آخر وزمانا آخر يقع التعامل فيه بغير تلك السكة تغيرت الفتيا إلى السكة الثانية ، وحرمت الفتيا بالأولى لأجل تغير العادة . مالكا
وكذلك القول في نفقات الزوجات والذرية والأقارب وكسوتهم تختلف بحسب العوائد ، وتنتقل الفتوى فيها وتحرم الفتوى بغير العادة الحاضرة ، وكذلك تقدير العواري بالعوائد وقبض الصدقات عند الدخول أو قبله أو بعده في عادة نفتي أن القول قول الزوج في الإقباض ؛ لأنه العادة وتارة بأن القول قول المرأة في عدم القبض إذا تغيرت العادة أو كانوا من أهل بلد ذلك عادتهم ، وتحرم الفتيا لهم بغير عادتهم ومن أفتى بغير ذلك كان خارقا للإجماع فإن الفتيا بغير مستند مجمع على تحريمها ، وكذلك التلوم للخصوم في تحصيل الديون للغرماء وغير ذلك مما هو مبني على العوائد مما لا يحصى عدده متى تغيرت فيه العادة تغير الحكم بإجماع المسلمين ، وحرمت الفتيا بالأول وإذا وضح لك ذلك اتضح لك أن ما عليه المالكية وغيرهم من الفقهاء من الفتيا من هذه الألفاظ بالطلاق الثلاث هو خلاف الإجماع ، وأن من توقف منهم عن ذلك ولم يجر المسطورات في الكتب على ما هي عليه بل لاحظ تنقل العوائد في ذلك أنه على الصواب سالم من هذه الورطة العظيمة فتأمل ذلك [ ص: 46 ] ومن الأغوار التي لم ينبه عليها أن المفتي إذا جاءه رجل يستفتيه عن لفظة من هذه الألفاظ وعرف بلد المفتي في هذه الألفاظ الطلاق الثلاث أو غيره من الأحكام لا يفتيه بحكم بلده بل يسأله هل هو من أهل بلد المفتي فيفتيه حينئذ بحكم ذلك البلد . الإمام أبو عبد الله المازري
أو هو من بلد آخر فيسأله حينئذ عن المشتهر في ذلك البلد فيفتيه به ، ويحرم عليه أن يفتيه بحكم بلده كما لو وقع التعامل ببلد غير بلد الحاكم حرم على الحاكم أن يلزم المشتري بسكة بلده بل بسكة بلد المشتري إن اختلفت السكتان فهذه قاعدة لا بد من ملاحظتها وبالإحاطة بها يظهر لك غلط كثير من الفقهاء المفتين فإنهم يجرون المسطورات في كتب أئمتهم على أهل الأمصار في سائر الأعصار ، وذلك خلاف الإجماع وهم عصاة آثمون عند الله تعالى غير معذورين بالجهل لدخولهم في الفتوى وليسوا أهلا لها ولا عالمين بمدارك الفتاوى وشروطها واختلاف أحوالها ، فالحق حينئذ أن أكثر هذه الألفاظ التي تقدم ذكرها ليس فيها إلا الوضع اللغوي ، وأنها كنايات خفية لا يلزم بها طلاق ولا غيره إلا بالنية وإن لم تكن له نية لم يلزمه شيء حتى يحصل فيها نقل عرفي كما تقدم بيانه فيجب اتباع ذلك النقل على حسب ما نقل اللفظ إليه من بينونة أو عدد أو غير ذلك فهذا هو دين الله تعالى الحق الصريح والفقه الصحيح .
( قاعدة ) المجاز لا يدخل في النصوص بل في الظواهر فقط فمن أطلق العشرة وأراد السبعة فهو مخطئ لغة ومن أطلق صيغ العموم وأراد الخصوص فهو مصيب لغة ؛ لأنها ظواهر وأسماء الأعداد عندهم نصوص لا يجوز دخول المجاز فيها ألبتة .
( قاعدة ) كل لفظ لا يجوز دخول المجاز فيه لا تؤثر النية في صرفه عن موضوعه ؛ لأن النية لا تصرف اللفظ إلى معنى إلا إذا كان يجوز الصرف إليه لغة هذه قاعدة شرعية والأولى قاعدة لغوية فبنيت الشرعية على اللغوية وهي القاعدة الشرعية المحمدية [ ص: 47 ] وعلى هاتين القاعدتين ترتب قول ومن وافقه من العلماء بأن القائل أنت حرام أو ألبتة أو غير ذلك من الألفاظ لا ينوي في أقل من الثلاث بناء على أن اللفظ نقل إلى العدد المعين وهو الثلاث فصار من جملة أسماء الأعداد وأسماء الأعداد لا يدخلها المجاز فلا تسمع فيها النية للقاعدتين المتقدمتين . مالك
وبهذا يظهر لك الفرق بين قول القائل أنت طالق ثلاثا ، ويريد اثنتين لا تسمع نيته في القضاء ولا في الفتوى أو يريد أنها طلقت ثلاث مرات من الولد فتسمع نيته في الفتيا دون القضاء ؛ لأن الأول أدخل النية في لفظ العدد فامتنع ، والثاني أدخل النية في اسم جنس الطلاق فحوله لطلق الولد وبقي العدد في ذلك الجنس الذي تحول إليه اللفظ لم يتعرض له بالنية فدخل المجاز في اسم الجنس لا في العدد ، والمجاز في أسماء الأجناس جائز بخلاف أسماء الأعداد فقبلت النية في رفع الطلاق بجملته لتحويله لجنس آخر ، ولم تقبل في رفع بعضه .
وهذا يظهر في بادئ الرأي بطلانه ، وأن النية إذا قبلت في رفع الكل أولى أن تقبل في رفع البعض والسر ما تقدم تقريره .
فإن قلت ما ذكرته من الحق متعين اتباعه فما سبب اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في هذه الألفاظ ومن بعدهم من العلماء وكيف ساغ الخلاف مع وضوح هذا المدرك وقلت سبب اختلافهم رضي الله عنهم اختلافهم في تحقيق وقوع النقل العرفي هل وجد فيتبع أو لم يوجد فيتبع موجب اللغة ، وإذا وجد النقل فهل وجد في أصل الطلاق فقط أو فيه مع البينونة أو مع العدد كما تقدم تقريره وإذا لم يوجد نقل عرفي وبقي موجب اللغة فهل يلاحظ نصوص اقتضت الكفارة في مثل هذا أم لا أو القياس على بعض الأحكام فيكون المدرك هو القياس لا النص فهذا هو سبب اختلافهم رضي الله عنهم مع اتفاقهم على هذه المدارك المذكورة غير أنه لم يتضح وجودها عند بعضهم ، واتضح عند البعض الآخر .
وأما لو وقع الاتفاق على وجودها وقع الاتفاق على الحكم وارتفع الخلاف فلا تنافي بين صحة هذه المدارك وبين اختلافهم في وجودها وترتب الحكم عليها فإن قلت فلعل مدرك [ ص: 48 ] نص أو قياس فتستمر فتاويه في بعض الأعصار والأمصار ولا يلزم تغييرها بتغير العوائد فإن ذلك إنما يلزم فيما مدركه العوائد أما ما هو بالنصوص أو الأقيسة فيتأبد فيكون المفتي بموجبات المنقولات في الكتب مصيبا لا مخطئا ، ولا يجتمع مالك حتى يسأله عما في نفسه ومع الاحتمال لا تتعين التخطئة . بمالك
ويجب اتباع موجب المنقولات عن الأئمة من غير اعتراض ؛ لأنا مقلدون لهم رضي الله عنهم لا معترضون عليهم ومتى وجدنا فتاويهم وجهلنا مدركها نقلناها كما وجدناها لمن يسألنا عن المذهب فإنا مقلدون لا مجتهدون .
قلت : الجواب عن هذا السؤال من وجوه الأول الاستقراء فإنا لسنا جاهلين باللغة إلى حد لا نعلم مدلول هذه الألفاظ لغة مع أنها من الألفاظ المشهورة لا من الحوشية ، وقد تقدم أن اللغة إنما تقتضي الخبر لا ما ذكروه من الإنشاء ، ولا يمكن أن يكون مدركهم القياس فإنا نعلم مسائل الطلاق وشرائط القياس ، وليس فيها ما يقتضي القياس على ما ذكروه وليس فيها آية من كتاب تقتضي أكثر مما قاله القائلون بالكفارة التي دل عليها آية التحريم ، والأحاديث لم نجد أحدا من العلماء روى في هذه الأحكام حديثا .
وقد وقعت هذه المسألة بين الصحابة وبين التابعين رضي الله عنهم ولم نجد أحدا في كتب الفقه والخلاف روى عن أحد منهم أنه روى في ذلك حديثا فلم يبق سوى العوائد الثاني أن إمام الفقه وأصوله وحافظ متقن العلم الحديث وفنونه ، وله في جميع ذلك اليد البيضاء والرتبة العالية ، وقد تقدم ما قاله في هذه المسألة من القواعد ، وأشار إلى أن سبب الخلاف فيها نقل العوائد كما تقدم بسطه فكفى به قدوة في مدرك هذه الشروع ومعتمدا في ضوابطها وتلخيصها ، وقد تابعه في ذلك جماعة من الشيوخ والمصنفين ولم نجد لهم مخالفا فكان ذلك إجماعا من أئمة المذهب فالتشكيك بعد ذلك في المدرك إنما هو طلب للجهل وسبيل لغواية التضليل . الإمام أبا عبد الله المازري
الثالث أن قاعدة الفقهاء وعوائد الفضلاء أنهم إذا ظفروا للنوع بمدرك مناسب وفقدوا غيره جعلوه معتمدا لذلك الفرع في حق الإمام المجتهد الأول الذي أفتى بذلك الفرع وفي حقهم أيضا في الفتيا والتخريج واستقراء أحوال الفقهاء في مسلك النظر .
وتحرير الفروع يقتضي الجزم بذلك فكذلك يجب هاهنا ، ونحن استقرينا هذه المسائل فلم نجد لها مدركا مناسبا إلا العوائد فوجب جعلها مدرك الأئمة إفتاء وتخريجا ، والعدول عن ذلك بعد ذلك إنما هو التزام للجهالة من غير معنى مناسب ويؤيد ذلك أنا في كلام الشرع إذا ظفرنا بالمناسبة جزمنا بإضافة الحكم إليها مع تجويز أن لا يكون الحكم كذلك عقلا لكن الاستقراء أوجب لنا ذلك ، ولا نعرج على غير ما وجدناه ولا نلتزم التعبد مع وجود المناسب هذا مما أجمع عليه الفقهاء القياسون وأهل النظر والرأي والاعتبار فأولى أن نفعل ذلك في كلام غير صاحب الشريعة بل نحمل كلام العلماء على المناسب لتلك الفتاوى السالم [ ص: 49 ] عن المعارض نعم إذا وجدنا مناسبين تعارضا أو مدركين تقابلا فحينئذ يحسن التوقف وهذا تقرير ظاهر في دفع هذا السؤل .