[ ص: 213 ] الفرق التاسع والثلاثون بين ) وهاتان قاعدتان عظيمتان وتحريرهما أن الزواجر تعتمد المفاسد فقد يكون معهما العصيان في المكلفين وقد لا يكون معها عصيان كالصبيان والمجانين فإنا نزجرهم ونؤدبهم لا لعصيانهم بل لدرء مفاسدهم واستصلاحهم وكذلك البهائم ثم هي قد يكون مقدرة كالحدود وقد لا تكون كالتعازير وأما الجوابر فهي مشروعة لاستدراك المصالح الفائتة والزواجر مشروعة لدرء المفاسد المتوقعة ولا يشترط في حق من يتوجه في حقه الجابر أن يكون آثما ولذلك شرع مع العمد والجهل والعلم والنسيان والذكر وعلى المجانين والصبيان بخلاف الزواجر فإن معظمهما على العصاة زجرا لهم عن المعصية وزجرا لمن يقدم بعدهم على المعصية وقد تكون مع عدم العصيان كما نقدم تمثيله بالصبيان وكذلك قتال البغاة درءا لتفريق الكلمة مع عدم التأثيم لأنهم متأولون وقد اختلف في بعض الكفارات هل هي زواجر لما فيها من مشاق تحمل الأموال وغيرها أو هي جوابر لأنها عبادات لا تصح إلا بنيات وليس التقرب إلى الله زجرا بخلاف الحدود والتعزيرات فإنها ليست قربات لأنها ليست فعلا للمزجورين بل يفعلها الأئمة بهم ثم الجوابر تقع في العبادات والنفوس والأعضاء ومنافع الأعضاء والجراح والأموال والمنافع فجوابر العبادات كالتيمم مع الوضوء وسجود السهو للسنن وجهة السفر في الصلاة مع قاعدة الزواجر وبين قاعدة الجوابر الكعبة وجهة العدو في الخوف مع الكعبة إذا ألجأت الضرورة إلى ذلك .
وصلاة الجماعة لمن صلى وحده لأنه يجبر ما فاته من فضيلة الجماعة بالإعادة في جماعة أخرى وأخذ النقدين مع دون السن الواجب في الزكاة أو زيادة السن في ابن اللبون مع وصف الأنوثة الفائت في بنت المخاض والإطعام لمن أخر قضاء رمضان عن سنته إلى بعد شعبان أو لم يصم لعجزه والصيام والإطعام والنسك في حق من ارتكب محظورا من محظورات الحج أو الدم لترك الميقات أو التلبية أو شيء من واجبات الحج ما عدا الأركان أو العمل في التمتع أو القران وجبر الدم [ ص: 214 ] بصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة في غيره وجبر الصيد في الحرم أو الإحرام بالمثل أو الإطعام أو الصيام أو الصيد المملوك بذلك لحق الله تعالى وبقيمته لحق الآدمي المالك وهو متلف واحد جبر ببدلين وهو من نوادر المجبورات ولم يشرع لشجر الحرم جابر خلافا واعلم أن للشافعي ويجبر الحج والعمرة والصيد بالبدني والمالي معا ومفترقين والصوم بالبدني بالقضاء وبالمال في الإطعام وأما الصلاة لا تجبر إلا بعمل بدني ولا تجبر الأموال إلا بالمال فالأصل أن يؤتي بعين المال مع الإمكان فإن أتى به كامل الذات والصفات برئ من عهدته أو ناقص الأوصاف جبر بالقيمة لأن الأوصاف ليست مثلية إلا أن تكون الأوصاف تخل بالمقصود من تلك العين خللا كثيرا فإنه يضمن الجملة عندنا خلافا جوابر المال كمن قطع ذنب بغلة القاضي ونحوه فإنه يتعذر بعد ذلك ركوبها على ذوي الهيئات وكذلك ضمنه أصحابنا المغصوب إذا ذبح الشاة أو طحن القمح أو ضرب الفضة دراهم أو شق الخشبة ألواحا أو زرع الحنطة ونحو ذلك وقال للشافعي بل له أخذ عين ماله حيث وجده وعند أصحابنا للغاصب منعه مما وجد من ماله في هذه الصورة والأول أنضر وأقرب للقواعد وأما إن جاء بها ناقصة القيمة في بعض المواطن لم يضمن لأن الفائت رغبات الناس وهي غير متقومة في الشرع ولا قائمة بالعين . الشافعي
وتجبر الأموال المثلية بأمثالها لأن المثل أقرب إلى رد العين الذي هو الأصل من القيمة وقد خولفت هذه القاعدة في صورتين في لبن المصراة لأجل اختلاط لبن البائع بلبن المشتري وعدم تمييز المقدار وفيمن غصب ماء في المعاطش فإن جماعة من العلماء يضمنونه القيمة في محل غصبه .
وأما المنافع فالمحرم منها لا يجبر احتقارا لها كالمزمار ونحوه كما لم تجبر النجاسات من الأعيان واستثني من ذلك تغليبا لجانب المرأة فإنها لم تأت محرما والظالم أحق أن يحمل عليه ولأنه كالغاصب لسكنى دار ولم يجبر اللواط لأنه لم يقوم قط في الشرع فأشبه القبلة والعناق وغير المحرم منه ما يضمن بالعقود الصحيحة والفاسدة والفوات تحت الأيدي المبطلة . مهر المزني بها كرها
[ ص: 215 ] ولا تضمن منافع الحر بحبسه لأن يده على منافعه فلا يتصور فواتها في يد غيره ومنافع الأبضاع تضمن بالعقد الصحيح والفاسد والشبهة والإكراه ولا تجبر بالفوات تحت الأيدي العادية والفرق أن قليل المنافع يجبر بالقليل من الجابر وكثيرها بكثيره وضمان البضع بمهر المثل وهو يستحق بمجرد الإيلاج فلو جبر بالفوات لوجب ما لا يمكن ضبطه فضلا عن القدرة عليه فإن كل ساعة يفوت فيها من الإيلاجات شيء كثير جدا وإيجاب مثل هذا بعيد من قواعد الشرع .
وأما النفوس فإنها خارجة عن هذه القوانين لمصالح تذكر في الجنايات فروع ثلاثة في الزواجر الأول الحنفي إذا شرب يسير النبيذ قال أحده وأقبل شهادته أما حده فلدرء المفسدة في التسبب لإفساد العقل وأما قبول شهادته فلأنه مقلد أو مجتهد وكلاهما غير عاص لأن حكم الله تعالى عليهما ما أدى إليه الاجتهاد وقال الشافعي أحده ولا أقبل شهادته أما حده فللمفسدة والمعصية معا بسبب أن إباحة اليسير من النبيذ على خلاف القياس الجلي والقياس الجلي يقتضي تحريمه قياسا على الخمر بجامع الإسكار وعلى خلاف النصوص الصريحة كقوله عليه السلام { مالك } وعلى خلاف القواعد لأن القواعد تقتضي صيانة العقول ومنع التسبب لإفسادها والحكم الذي يكون على خلاف أحد هذه الأمور إذا قضى به القاضي ينقض قضاؤه وما لا يقر مع قضاء القاضي وتأكده بالقضاء ولا نقره شرعا مع التأكيد فأولى أن لا نقره شرعا مع عدم التأكيد وما لا يقر شرعا ليس فيه تقليد ولا اجتهاد مقبول شرعا ومن أتى المفسدة بغير تقليد صحيح أو اجتهاد معتبر فهو عاص فنحده للمعصية والمفسدة ولهذه العلة لا أقبل شهادته لفسقه حينئذ بالمعصية وأما قول ما أسكر كثيره فقليله حرام إن التأديب قد يكون مع عدم المعصية بل لأجل المفسدة كتأديب الصبيان والبهائم فلا يفيده في هذه المسألة لأنا نسلم له ذلك في التأديب الذي ليس بمقدر وأما المقدر وهو الحدود فلا نسلم أنها قد تكون في غير معصية الثاني [ ص: 216 ] الشافعي اتفق فقهاء أهل العصر على المنع منها أعني كثيرها المغيب للعقل واختلفوا بعد ذلك هل الواجب فيها التعزير أو الحد على أنها مسكرة أو مفسدة للعقل من غير سكر ونصوص المتحدثين على النبات تقتضي أنها مسكرة فإنهم يصفونها بذلك في كتبهم . النبات المعروف بالحشيشة التي يتعاطاها أهل الفسوق
والذي يظهر لي أنها مفسدة على ما أقرره في الفرق بينهما بعد هذا إن شاء الله تعالى فرع مرتب سئل بعض فقهاء العصر عمن فأفتى أنه إن صلى بها قبل أن تحمص أو تصلق صحت صلاته أو بعد ذلك بطلت صلاته وقال في تعليل الفرق بأنها إنما تغيب العقل بعد التحميص أو الصلق أما قبل ذلك وهي ورق أخضر فلا بل هي كالعصير الذي للعنب وتحميصها كغليانه وسألت عن هذا الفرق جماعة ممن يعانيها فاختلفوا على قولين فمنهم من سلم هذا الفرق وقال لا تؤثر إلا بعد مباشرة النار ومنهم من قال بل تؤثر مطلقا وإنما تحمص لإصلاح طعمها وتعديل كيفيتها خاصة فعلى القول بعدم هذا الفرق تبطل الصلاة مطلقا وعلى القول بالفرق يكون الحق ما قاله المفتي إن صح أنها من المسكرات وإلا صحت الصلاة بها مطلقا وهو الذي أعتقده أنها مفسدة والمفسدة لا تبطل الصلاة كالبنج والسيكران وجوزة صلى بالحشيشة معه هل تبطل صلاته أم لا ؟ بابل الثالث قال إمام الحرمين القاعدة في التأديبات إنما تكون على قدر الجنايات فكلما عظمت الجناية عظمت العقوبة فإذا فرض شخص من الجناة لا يؤثر فيه التأديب اللائق بجنايته ردعا والذي يؤثر فيه كالقتل ونحوه لا يجوز أن يكون عقوبة لتلك الجناية فإن هذا الجاني يسقط تأديبه مطلقا أما المناسب فيسقط لعدم الفائدة فيه والإيلام مفسدة لا تشرع إلا لتحصيل مصلحة فحيث لا مصلحة لا تشرع وأما غير المناسب فلعدم سببه المبيح فيسقط تأديبه مطلقا وهو متجه اتجاها قويا .