( ) [ ص: 56 ] الفرق السادس والستون بين قاعدة ما تعين وقته فيوصف فيه بالأداء وبعده بالقضاء وبين قاعدة ما تعين وقته ولا يوصف فيه بالأداء ولا بعده بالقضاء والتعيين في القسمين شرعي
اعلم أن هذا الموضع وهذا الفرق لم أره لأحد من العلماء فيم رأيته ولم يقع التصريح به فيما وجدته ولا التعريض بل التصريح في حد الأداء والقضاء بضده في كتب الأصول والفروع فيقولون في حد الأداء هو إيقاع الواجب في وقته المحدود له شرعا وفي حد القضاء هو إيقاع الواجب خارج وقته المحدود له شرعا وهذان التفسيران باطلان بسبب أن الواجبات الفورية كرد الغصوب والودائع إذا طلبت والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأقضية الحكام إذا نهضت الحجاج كل ذلك واجب على الفور ، ومع ذلك لا يقال لها إنها أداء إذا وقعت في وقتها المحدود لها شرعا ولا قضاء إذا وقعت بعده فإن الشرع حدد لها زمانا وهو زمان الوقوع فأوله أول زمان التكليف وآخره الفراغ منها بحسبها في طولها وقصرها فزمانها محدود شرعا مع انتفاء الأداء والقضاء عنها في الوقت وبعده .
وكذلك حدد له الشرع الزمان فأوله ما يلي زمن السقوط وآخره الفراغ من علاجه بحسب حاله ولا يوصف بأنه أداء في الوقت ولا قضاء بعده مع التحديد الشرعي ، ومن ذلك الحج إذا قلنا : إنه على الفور فإن الشارع حدد له زمانا من هذه السنة ولا يوصف بأنه قضاء بعد هذه السنة إذا أخرت هذه الحجة ولا يلزم معها هدي القضاء ، وكذلك إذا قلنا الأمر للفور فإن إنقاذ الغريق القاضي أبا بكر رحمه الله قال لا بد من زمان للسماع وزمان للتأمل وتعرف معنى الخطاب وفي الزمن الثالث يكون الفعل زمانيا وبالتأخير عنه يوصف المكلف بالمخالفة .
وقد حدد الشرع الزمان حينئذ أوله الزمن الثالث من زمن السماع وآخره الفراغ من الفعل بحسبه وهذه النقوض كلها تبطل حد الأداء فإن حده يتناولها وليست أداء فيكون غير مانع وإيقاعها بعد وقتها يتناوله حد القضاء وليست قضاء فيكون غير جامع فحينئذ تتعين العناية بتحرير الفرق وتحرير هذه الضوابط والحدود حتى يتضح الحق في ذلك وهو أن نقول الأداء هو إيقاع الواجب في وقته المحدود له شرعا لمصلحة اشتمل عليها الوقت بالأمر الأول والقضاء إيقاع الواجب خارج وقته المحدود له شرعا لأجل مصلحة فيه بالأمر الثاني فقوله في وقته احتراز من القضاء ، وقولنا : " المحدود له " احتراز من المغيا بجميع العمر ، وقولنا : " شرعا " احتراز مما يحده أهل العرف ، وقولنا : " لمصلحة اشتمل عليها الوقت " احتراز من تلك النقوض كلها ، وتحريره أنا نعتقد أن الله تعالى إنما عين شهر رمضان لمصلحة يشتمل عليها دون غيره طردا لقاعدة الشرع في رعاية المصالح على سبيل التفضل فإنا إذا لاحظنا الشرائع وجدناها مصالح في الأغلب أدركنا ذلك وخفي علينا في الأقل فقلنا ذلك الأقل من جنس ذلك الأكثر كما لو جرت عادة ملك بأن لا يخلع الأخضر إلا على الفقهاء فإذا رأينا من خلع عليه الأخضر ولا نعلم قلنا هو فقيه طردا لقاعدة ذلك الملك وكذلك نعتقد فيما لم نطلع فيه على مفسدة ولا مصلحة [ ص: 57 ] أنه مصلحة إن كان في جانب الأمر وفيه مفسدة إن كان في جانب النواهي طردا لقاعدة الشرع في رعاية المصالح والمفاسد على سبيل التفضل لا على سبيل الوجوب العقلي كما تقوله المعتزلة ، وكذا نقول في أوقات الصلوات إنها مشتملة على مصالح لا نعلمها وكذلك كل تعبدي ومعناه أن فيه مصلحة لا نعلمها فحينئذ تتعين أوقات العبادات لمصالح فيها ، وتعيين الفوريات ليس كذلك بل تبع للمأمورات وطريان الأسباب فالغريق لو تأخر سقوطه في البحر تأخر الزمان أو تعجل تعجل الزمان فتأمل ذلك .
وكذلك الحج تابع للاستطاعة فلو تأخرت تأخرت السنة أو تقدمت تقدمت السنة فصار تعيين الوقت تابعا للاستطاعة لا لمصلحة فيه ، وكذلك نقول : إن الفور تعين الوقت إذا قلنا الأمر على الفور تابع لورود الصيغة فإن تقدمت تقدم الوقت أو تأخرت تأخر الوقت وكذلك أقضية الحكام الوقت تابع لنهوض الحجاج فتتعين حينئذ وكذلك رد المغصوب وبقية النقوض قد اتضح لك التخريج في ذلك وظهر الفرق بينهما وبين أوقات العبادات فإنها متعينة لمصالح فيها ولولاها لما تعين بعد الزوال دون ما قبله ولا رمضان دون بقية شهور السنة إذا اتضح لك الفرق فقوله في الحد لمصلحة اشتمل عليها الوقت احتراز من تعيين الوقت لمصلحة المأمور والتبعية لطريان الأسباب .
واتجه أيضا حد القضاء بذلك لما قلنا إنه إيقاع الواجب خارج وقته المحدود له شرعا لمصلحة اشتمل عليها الوقت فلا يكون الفعل موصوفا بالقضاء إلا إذا وقع خارج وقته المحدود لمصلحة فيه ، وقولنا في القضاء بالأمر الثاني احتراز من نقض وهو أن الله تعالى جعل لقضاء رمضان جملة السنة كلها التي تلي شهر الأداء فهو واجب وقع في وقته المحدود له شرعا وليس أداء فخرج بقولنا بالأمر الأول أن القضاء وجب بأمر جديد ودخل في حد القضاء ولم يخرج منه بقولنا بالأمر الثاني وسبب اندراجه في حد الأداء أن الله تعالى عين السنة لمصلحة تختص بها لا نعلمها فالسنة كأوقات الصلوات ليست تابعة لغيرها بخلاف سنة الحج تابعة للاستطاعة فإن قلت وسنة القضاء أيضا تابعة لترك الصوم قلت مسلم لكن هذا وقت حدد طرفاه وجعل واجبا موسعا بخلاف الحج .
ولما ترتب رمضان من بين سائر الشهور للأداء رتب ما بعده للقضاء إلى شعبان في أصل الشريعة معينا في حق كل مكلف بخلاف الحج لم يعين له إلا ما كان عقيب الاستطاعة وهي تختلف باختلاف الناس وسنة القضاء لا تختلف باختلاف الناس فهذا هو الفرق فإن قلت ما ذكرته لا يتم لاتفاق الناس على أن الحج يوصف بالقضاء مع خروجه عما ذكرته من التحديد فيقولون في الحج بعد الحجة الفاسدة قضاء ويقولون إن النوافل تقضى وليس لها وقت محدود بالتفسير الذي ذكرته فعند يقضى ما له سبب وعند الشافعي مالك ما شرع فيه من الطاعات وأبطله على تفصيل [ ص: 58 ] عند الإمامين مذكور في كتب الفروع للفريقين فقد اتفقوا على القضاء في النوافل ويقولون وأبي حنيفة خلاف بين العلماء في تعيين القضاء لا في أنه يسمى قضاء لو وقع فاتفق الكل على أنه لو فعل ما فاته من المغرب جهرا لكان قضاء اتفاقا إنما الخلاف هل حكم الله تعالى ذلك أم لا قال الله تعالى { المأموم فيما فاته هل يكون قاضيا أم بانيا فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض } مع أن صلاة المأموم وقضاء صلاة الجمعة في الوقت فبطل بهذه الأنواع حد الأداء وحد القضاء قلت القضاء في اصطلاح حملة الشريعة لفظ مشترك يطلق على ثلاث معان : أحدهما إيقاع الواجب خارج وقته على ما تقدم تحديده ، وثانيها : إيقاع الواجب بعد تعيينه بالشروع ومنه حجة القضاء ومنه قضاء النوافل إذا شرع فيها وهذا مغاير للقسم الأول ؛ لأن مفهوم قولنا خارج وقته مخالف لقولنا بعد تعينه بالشروع فإن بعدية الوقت غير بعدية الشروع ، وثالثها : ما وقع على خلاف وضعه في الشريعة مع قطع النظر عن الوقت والتعيين بالشروع ، ومنه قضاء المأموم ؛ لأن الركعتين الأخيرتين من العشاء إذا صليتا جهرا فهذا خلاف الوضع الشرعي فإن وضع الشريعة تقدم الجهر على السر فتأخيره خلاف الوضع الشرعي فهذه ثلاثة معان في الاصطلاح ويلحق بها قسم رابع عند ومن قال بقوله : إن السنن تقضى لتقدم أسبابها لا للشروع فيها فيكون مفسرا عنده أيضا بإيقاع الفعل بعد تقدم سببه فهذه أربعة اصطلاحية . الشافعي
وأما قوله تعالى { فإذا قضيت الصلاة } فذلك وضع لغوي لا اصطلاحي فيقال قضي الفعل إذا فعل كيف كان فقضى بمعنى فعل وهذا غير ما نحن فيه وحينئذ يصير لفظ القضاء يطلق باعتبار اللغة والاصطلاح على خمسة معان مختلفة أربعة منها اصطلاحية وواحد لغوي واللفظ إذا كان مشتركا بين معان مختلفة وحددنا بعض تلك المعاني لا يرد علينا غيره من تلك المعاني نقضا ولا سؤالا كما إذا حددنا العين بمعنى الحدقة بأنها عضو يتأتى به الإبصار فيقول السائل ينتقض عليك بعين الماء وبالذهب وغير ذلك مما يسمى عينا فلا يسمع هذا السؤال فإن الحقائق المختلفة أن تكون حدودها مختلفة فحينئذ لا يرد علينا حقيقة من تلك الحقائق الأربعة على تحديدنا القضاء بالموقع خارج الوقت ؛ لأنها معان مختلفة فاندفعت الأسئلة التي وردت من هذا الباب واستقام وظهر حينئذ الفرق بين قاعدة ما تعين وقته فيوصف بالأداء والقضاء وبين قاعدة ما لا يتعين وقته فلا يوصف لا بالأداء ولا بالقضاء . حد القضاء وحد الأداء