( الفرق السادس والخمسون والمائتان بين ) فالزهد هيئة في القلب كما تقدم بيانه والورع من أفعال الجوارح ، وهو ترك ما لا بأس به حذرا مما به البأس وأصله قوله : عليه السلام { قاعدة الزهد وقاعدة الورع } ، وهو مندوب إليه ومنه الخروج عن خلاف العلماء بحسب الإمكان فإن الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه سلم فالورع الترك أو هو مباح أو واجب فالورع الفعل مع اعتقاد الوجوب حتى يجزئ عن الواجب على المذهب ، وإن اختلفوا فيه هل هو مندوب أو حرام فالورع الترك أو مكروه أو واجب فالورع الفعل [ ص: 211 ] حذرا من العقاب في ترك الواجب ، وفعل المكروه لا يضره ، وإن اختلفوا هل هو مشروع أم لا فالورع الفعل ؛ لأن القائل بالمشروعية مثبت لأمر لم يطلع عليه النافي ، والمثبت مقدم على النافي كتعارض البينات ، وذلك كاختلاف العلماء في مشروعية اختلف العلماء في فعل هل هو مباح أو حرام الفاتحة في صلاة الجنازة يقول ليست بمشروعة فمالك يقول هي مشروعة أو واجبة فالورع الفعل لتيقن الخلوص من إثم ترك الواجب على مذهبه والشافعي قال وكالبسملة : هي في الصلاة مكروهة ، وقال مالك : هي واجبة فالورع الفعل للخروج عن عهدة ترك الواجب فإن اختلفوا هل هو حرام أو واجب فالعقاب متوقع على كل تقدير فلا ورع إلا أن نقول إن المحرم إذا عارضه الواجب قدم على الواجب ؛ لأن رعاية [ ص: 212 ] درء المفاسد أولى من رعاية حصول المصالح ، وهو الأنظر فيقدم المحرم ها هنا فيكون الورع الترك ، وإن اختلفوا هل هو مندوب أو مكروه فلا ورع لتساوي الجهتين على ما تقدم في المحرم والواجب ويمكن ترجيح المكروه كما تقدم في المحرم وعلى هذا المنوال تجري قاعدة الورع وهذا مع تقارب الأدلة أما إذا كان أحد المذهبين ضعيف الدليل جدا بحيث لو حكم به حاكم لنقضناه لم يحسن الورع في مثله ، وإنما يحسن إذا كان مما يمكن تقريره شريعة الشافعي
[ ص: 213 ] الدال على دخول الورع في ذلك هذا أمر لا أعرف له وجها غير ما يتوهم من توقع الإثم والعقاب ، وذلك منتف بالدليل الإجماعي القطعي ، وكيف يصح ذلك ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول { } فأطلق القول من غير تقييد ، ولا تفصيل ، ولا تنبيه على وجه الورع في ذلك ثم لم يحفظ التنبيه في ذلك عن واحد من أصحابه ، ولا غيرهم من السلف المتقدم ثم الخروج عن الخلاف لا يتأتى في مثل ما مثل به كما في مسألة الخلاف بالتحريم والتحليل في الفعل الواحد فإنه لا بد من الإقدام على ذلك الفعل والانكفاف عنه فإن أقدم عليه المكلف فقد وافق مذهب المحلل وإن انكف عنه فقد وافق مذهب المحرم فأين الخروج عن الخلاف إنما ذلك عمل على وفق أحد المذهبين لا خروج عن المذهبين ، ومثاله : أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم فإنه مباح عند أكل لحوم الخيل ممنوع أو مكروه عند الشافعي فإن أقدم على الأكل ، فذلك مذهب مالك ، وإن انكف فذلك مذهب الشافعي وما قاله فيما إذا اختلفوا في المشروعية وعدمها من أن القائل بها مثبت لأمر لم يطلع عليه النافي ، والمثبت مقدم كتعارض البينات ليس بصحيح على الإطلاق فإنه إن عنى بتعارض البينات كما إذا قالت إحدى البينتين لزيد عند عمرو دينار ، وقالت الأخرى : ليس عنده شيء فلا تعارض ؛ لأن النافية معنى نفيها أنها لا تعلم أن له عنده شيئا أو ليس عنده شيء فلا تعارض ، وليس معنى نفيها أنها تعلم أنه ليس له عنده شيء فإن ذلك أمر يتعذر [ ص: 214 ] مالك