[ ص: 107 ] ( الفرق الثامن والسبعون ) اعلم أن طالب العلم له أحوال الحالة الأولى أن يشتغل بمختصر من مختصرات مذهبه فيه مطلقات مقيدة في غيره وعمومات مخصوصة في غيره ومتى كان الكتاب المعين حفظه وفهمه كذلك أو جوز عليه أن يكون كذلك حرم عليه أن يفتي بما فيه وإن أجاده حفظا وفهما إلا في مسألة يقطع فيها أنها مستوعبة التقييد وأنها لا تحتاج إلى معنى آخر من كتاب آخر فيجوز له أن ينقلها لمن يحتاجها على وجهها من غير زيادة ولا نقصان وتكون هي عين الواقعة المسئول عنها لا أنها تشبهها ولا تخرج عليها بل هي هي حرفا بحرف لأنه قد يكون هنالك فروق تمنع من الإلحاق أو تخصيص أو تقييد يمنع من الفتيا بالمحفوظ فيجب الوقف . الفرق بين قاعدة من يجوز له أن يفتي وبين قاعدة من لا يجوز له أن يفتي
الحالة الثانية أن يتسع تحصيله في المذهب بحيث يطلع من تفاصيل الشروحات والمطولات على تقييد المطلقات وتخصيص العمومات ولكنه مع ذلك لم يضبط مدارك إمامه ومسنداته في فروعه ضبطا متقنا بل سمعها من حيث الجملة من أفواه الطلبة والمشايخ فهذا يجوز له أن يفتي بجميع ما ينقله ويحفظه في مذهبه اتباعا لمشهور ذلك المذهب بشروط الفتيا ولكنه إذا وقعت له واقعة ليست في حفظه لا يخرجها على محفوظاته ولا يقول هذه تشبه المسألة الفلانية لأن ذلك إنما يصح ممن أحاط بمدارك إمامه وأدلته وأقيسته وعلله التي اعتمد عليها مفصلة ومعرفة رتب تلك العلل ونسبتها إلى المصالح الشرعية وهل هي من باب المصالح الضرورية أو الحاجية أو التتميمية وهل هي من باب المناسب الذي اعتبر نوعه في نوع الحكم أو جنسه في جنس الحكم وهل هي من باب المصلحة المرسلة التي هي أدنى رتب المصالح أو من قبيل ما شهدت لها أصول الشرع بالاعتبار أو هي من باب قياس الشبه أو المناسب أو قياس الدلالة أو قياس الإحالة أو المناسب القريب إلى غير ذلك من تفاصيل الأقيسة ورتب العلل في نظر الشرع عند المجتهدين وسبب ذلك أن الناظر في مذهبه والمخرج على أصول إمامه نسبته إلى مذهبه وإمامه كنسبة إمامه إلى صاحب الشرع في اتباع نصوصه والتخريج على مقاصده فكما أن إمامه لا يجوز له أن يقيس مع قيام الفارق لأن الفارق مبطل للقياس والقياس الباطل لا يجوز الاعتماد عليه فكذلك هو أيضا لا يجوز له أن يخرج على مقاصد إمامه فرعا على فرع نص عليه إمامه مع قيام الفارق بينهما لكن الفروق
[ ص: 108 ] إنما تنشأ عن رتب العلل وتفاصيل أحوال الأقيسة فإذا كان إمامه أفتى في فرع بني على علة اعتبر فرعها في نوع الحكم لا يجوز له هو أن يخرج على أصل إمامه فرعا مثل ذلك الفرع لكن علته من قبيل ما شهد جنسه لجنس الحكم فإن النوع على النوع مقدم على الجنس في النوع ولا يلزم من اعتبار الأقوى اعتبار الأضعف وكذلك فيحرم عليه التخريج حينئذ لقيام الفارق أو تكون مصلحة إمامه التي اعتمد عليها من باب الضروريات فيفتي هو بمثلها ولكنها من باب الحاجات أو التتمات وهاتان ضعيفتان مرجوحتان بالنسبة إلى الأولى ولعل إمامه راعى خصوص تلك القوية والخصوص فائت هنا ومتى حصل التردد في ذلك والشك . إذا كان إمامه قد اعتبر مصلحة سالمة عن المعارض لقاعدة أخرى فوقع له هو فرع فيه عين تلك المصلحة لكنها معارضة بقاعدة أخرى أو بقواعد
وجب التوقف كما أن إمامه لو وجد صاحب الشرع قد نص على حكم ومصلحة من باب الضروريات حرم عليه أن يقيس عليه ما هو من باب الحاجات أو التتمات لأجل قيام الفارق فكذلك هذا المقلد له لأن نسبته إليه في التخريج كنسبة إمامه لصاحب الشرع والضابط له ولإمامه في القياس والتخريج أنهما متى جوزا فارقا يجوز أن يكون معتبرا حرم القياس ولا يجوز القياس إلا بعد الفحص المنتهي إلى غاية أنه لا فارق هناك ولا معارض ولا مانع يمنع من القياس وهذا قدر مشترك بين المجتهدين والمقلدين للأئمة المجتهدين فمهما جوز المقلد في معنى ظفر به في فحصه واجتهاده أن يكون إمامه قصده أو يراعيه حرم عليه التخريج فلا يجوز التخريج حينئذ إلا لمن هو عالم بتفاصيل أحوال الأقيسة والعلل ورتب المصالح وشروط القواعد وما يصلح أن يكون معارضا وما لا يصلح وهذا لا يعرفه إلا من يعرف أصول الفقه معرفة حسنة فإذا كان موصوفا بهذه الصفة وحصل له هذا المقام تعين عليه مقام آخر وهو النظر وبذل الجهد في تصفح تلك القواعد الشرعية وتلك المصالح وأنواع الأقيسة وتفاصيلها فإذا بذل جهده فيما يعرفه ووجد ما يجوز أن يعتبره إمامه فارقا أو مانعا أو شرطا وهو ليس في الحادثة التي يروم تخريجها حرم عليه التخريج وإن لم يجد شيئا بعد بذل الجهد وتمام المعرفة جاز له التخريج حينئذ .
وكذلك القول في إمامه مع صاحب الشرع لا بد أن يكون إمامه موصوفا بصفات الاجتهاد التي بعضها ما تقدم اشتراطه في حق المقلد المخرج ثم بعد اتصافه بصفات الاجتهاد ينتقل إلى مقام بذل الجهد فيما علمه من القواعد وتفاصيل المدارك فإذا بذل جهده ووجد حينئذ ما يصلح أن يكون فارقا أو مانعا أو شرطا قائما في الفرع الذي يروم قياسه على كلام صاحب الشرع حرم عليه [ ص: 109 ] القياس ووجب التوقف .
وإن غلب على ظنه عدم جميع ذلك وأن الفرع مساو للصورة التي نص عليها صاحب الشرع وجب عليه الإلحاق حينئذ وكذلك مقلده وحينئذ بهذا التقرير يتعين على من لا يشتغل بأصول الفقه أن لا يخرج فرعا أو نازلة على أصول مذهبه ومنقولاته وإن كثرت منقولاته جدا فلا تفيد كثرة المنقولات مع الجهل بما تقدم كما أن إمامه لو كثرت محفوظاته لنصوص الشريعة من الكتاب والسنة وأقضية الصحابة رضي الله عنهم ولم يكن عالما بأصول الفقه حرم عليه القياس والتخريج على المنصوصات من قبل صاحب الشرع بل حرم عليه الاستنباط من نصوص الشارع لأن الاستنباط فرع معرفة أصول الفقه فهذا الباب المجتهدون والمقلدون فيه سواء في امتناع التخريج بل يفتي كل مقلد وصل إلى هذه الحالة التي هي ضبط مطلقات إمامه بالتقييد وضبط عمومات مذهبه بمنقولات مذهبه خاصة من غير تخريج إذا فاته شرط التخريج كما أن إمامه لو فاته شرط أصول الفقه وحفظ النصوص واستوعبها يصير محدثا ناقلا فقط لا إماما مجتهدا كذلك هذا المقلد فتأمل ذلك فالناس مهملون له إهمالا شديدا ويقتحمون على الفتيا في دين الله تعالى والتخريج على قواعد الأئمة من غير شروط التخريج والإحاطة بها فصار يفتي من لم يحط بالتقييدات ولا بالتخصيصات من منقولات إمامه وذلك لعب في دين الله تعالى وفسوق ممن يتعمده أو ما علموا أن المفتي مخبر عن الله تعالى وأن من كذب على الله تعالى أو أخبر عنه مع ضبط ذلك الخبر فهو عند الله تعالى بمنزلة الكاذب على الله فليتق الله تعالى امرؤ في نفسه ولا يقدم على قول أو فعل بغير شرطه .