( الفرق الثالث والثمانون على الخلاف ) اعلم أن الماء المطلق هو الباقي على أصل خلقته أو تغير بما هو ضروري له كالجاري على الكبريت وغيره مما يلازم الماء في مقره وكان الأصل في هذا القسم أن لا يسمى مطلقا لأنه قد تقيد بإضافة عين أخرى إليه لكنه استثني للضرورة فجعل مطلقا توسعة على المكلف واختير هذا اللفظ لهذا الماء وهو قولنا مطلق لأن اللفظ يفرد فيه إذا عبر عنه فيقال ماء وشربت ماء . الفرق بين قاعدة الماء المطلق وبين قاعدة الماء المستعمل لا يجوز استعماله أو يكره
وهذا ماء وخلق الله الماء رحمة للعالمين ونحو ذلك من العبارات فأما غيره فلا يفرد اللفظ فيه بل يقال ماء الورد ماء الرياحين ماء البطيخ ونحو ذلك فلا يذكر اللفظ إلا مقيدا بإضافة أو معنى آخر .
وأما في هذا الماء فيقتصر على لفظ مفرد مطلق غير مقيد وإن وقعت الإضافة فيه كقولنا ماء البحر وماء البئر ونحوهما فهي غير محتاج إليها بخلاف ماء الورد ونحوه لا بد من ذلك القيد وتلك الإضافة فمن هنا حصل الفرق من جهة التعيين واللزوم وعدمه أما جواز الإطلاق من حيث الجملة فمشترك فيه بين البابين فهذا هو ضابط المطلق وأما الماء المستعمل فهو الذي أديت به طهارة وانفصل من الأعضاء لأن الماء ما دام في [ ص: 118 ] الأعضاء فلا خلاف أنه طهور مطلق ما دام مترددا .
فإذا انفصل عن العضو اختلف فيه هل هو صالح للتطهير أم لا وهل هو نجس أم لا وهل ينجس الثوب إذا لاقاه أم لا هذه أقوال للحنفية ولغيرها واختلف القائلون بخروجه عن صلاحيته للتطهير هل ذلك معلل بإزالة المانع أو بأنه أديت به قربة ويتخرج على القولين مسائل فإن قلنا إن العلة إزالة المانع لم يندرج في الماء المستعمل الغسل في المرة الثانية والثالثة في الوضوء إذا نوى في الأولى الوجوب ولا الماء المستعمل في تجديد الوضوء ونحو ذلك مما لا يزيل المانع ويندرج فيه الماء المستعمل في غسل الذمية لأنه أزال المانع من الوطء وإن قلنا إن سبب ذلك كونه أديت به قربة اندرج فيه الماء المستعمل في المرة الثانية والثالثة وفي تجديد الوضوء ولا يندرج الماء المستعمل في غسل الذمية لأنه لم تحصل به قربة عكس ما تقدم وللقائلين بالمنع وخروجه عن كونه صالحا للتطهير مدارك أحسنها أن قوله تعالى { وأنزلنا من السماء ماء طهورا } وقوله تعالى { ليطهركم به } .
مطلق في التطهير لا عام فيه بل عام في المكلفين فإذا قال السيد لعبيده أخرجت هذا الثوب لأغطيكم به لا يدل ذلك على أنه يغطيهم به مرات ولا مرتين بل يدل على أصل التغطية في جميعهم فإذا غطاهم به مرة حصل موجب اللفظ وكذلك هنا إذا تطهرنا بالماء مرة حصل موجب اللفظ فبقيت المرة الثانية فيه غير منطوق بها فتبقى على الأصل غير معتبرة فإن الأصل في الأشياء عدم الاعتبار في التطهير إذ الأصل أن لا يعتبر في التطهير وغيره إلا ما وردت الشريعة به وهذا وجه قوي حسن ومدرك جميل واحتجوا مع هذا الوجه بقولهم إنه ماء أديت به عبادة فلا تؤدى به عبادة أخرى كالرقبة في العتق وبقولهم إنه ماء الذنوب فيكون نجسا .
وإنما قلنا إنه ماء الذنوب لما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { } الحديث . فدل ذلك على أن هذا الماء تخرج معه الذنوب وإنما قلنا إنه إذا كان ماء الذنوب يكون نجسا لأن الذنوب ممنوع من ملابستها شرعا والنجاسة هي منع شرعي فإذا حصل المنع حصلت النجاسة . إذا توضأ المؤمن فغسل يديه خرجت الخطايا من بين أنامله وإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من أطراف أذنيه
والجواب عن الأول أنكم تجوزون عتق الرقبة الكافرة في الكفارات الواجبات ولو عاد رقيقا وجاز عتقه في الواجب مرة أخرى عندكم فما قستم عليه لا يتم على أصولكم سلمنا صحة القياس لكنه معارض بأنه عين أديت به عبادة فيجوز أن تؤدى به عبادة أخرى كالثوب في سترة الصلاة واستقبال أعتق عبدا كافرا ذميا ثم خرج إلى أهل الحرب ناقضا للعهد ثم غنمناه الكعبة .
وكذلك [ ص: 119 ] المال في الزكاة لو اشتراه ممن انتقل إليه من الفقراء جاز أن يخرجه في الزكاة مرة أخرى وكذلك السيف في الجهاد يجاهد به مرارا والفرس وغيره من آلات الحرب وكم من شيء في الشريعة تؤدى به العبادات مرارا كثيرة نعارضكم به في هذا القياس وعن الثاني أن الذنوب ليست أجراما توجب تنجيس الماء والنجاسة في الشرع إنما تكون في الأجرام عند اتصافها بأعراض أخر وهذه ليست أجراما فلا تكون توجب التنجيس وأما قولهم إن ملابسة الذنوب حرام فليس من هذا القبيل وإنما الذنوب التي تحرم ملابستها في الشريعة هي أفعال خاصة للمكلف اختيارية مكتسبة متعلقة بأشياء مخصوصة .
وأما هذه الذنوب فمعناها استحقاق المؤاخذة وذلك حكم من الله تعالى لا فعل للمكلف ومما يتعلق بالله تعالى ويختص به لا اختيار للمكلف فيه ولا كسب وحينئذ لا يوصف بتحريم ولا تحليل فظهر أن هذا إيهام لا حقيقة له واحتجوا أيضا بأن السلف رضي الله عنهم كانوا يباشرون الأسفار مع قلة الماء فيها ولم ينقل عن أحد منهم أنه جمع ماء طهارته ليستعمله بعد ذلك فكان ذلك إجماعا على أن الماء المستعمل لا يتطهر به والجواب عنه أن الغالب في ذلك الماء التغير لا سيما في زمن الصيف وشعث السفر فلا ينفصل إلا متغيرا بالأعراق وغيرها والمتغير لا يصلح للتطهير إنما النزاع في الماء المستعمل إذا لم يتغير أما هذا فمانع آخر غير كونه مستعملا فظهر الفرق بين الماء المستعمل والماء المطلق .