( الفرق التاسع والمائة بين قاعدة الواجبات والحقوق التي تقدم على الحج وبين قاعدة ما لا يقدم عليه )
والفرق بينهما مبني على معرفة قاعدة في الترجيحات - وضابط ما قدمه الله - تعالى - على غيره من المطلوبات وهي أنه إذا تعارضت الحقوق قدم منها المضيق على الموسع ؛ لأن التضييق يشعر بكثرة اهتمام صاحب الشرع بما جعله مضيقا ، وأن ما جوز له تأخيره وجعله موسعا عليه دون ذلك .
ويقدم الفوري على المتراخي ؛ لأن الأمر بالتعجيل يقتضي الأرجحية على ما جعل له تأخيره ، ويقدم فرض الأعيان على الكفاية ؛ لأن طلب الفعل من جميع المكلفين يقتضي أرجحية ما طلب من البعض فقط ولأن فرض الكفاية يعتمد عدم تكرر المصلحة بتكرر الفعل ، والأعيان يعتمد تكرر المصلحة بتكرر الفعل ، والفعل الذي تتكرر مصلحته في جميع صوره أقوى في استلزام المصلحة من الذي لا توجد المصلحة معه إلا في بعض صوره ولذلك يقدم ما يخشى فواته على ما لا يخشى فواته ، وإن كان أعلى رتبة منه كما تقدم حكاية قول المؤذن على قراءة القرآن ؛ لأن قراءة القرآن لا تفوت .
وحكاية قول المؤذن تفوت بالفراغ من الأذان وكذلك يقدم صون الأموال على العبادات إذا خرجت عن العادة كتقديم صون المال في شراء الماء للوضوء والغسل على الوضوء والغسل وينتقل للتيمم ، وكتقديمه على الحج إذا أفرطت الغرامات في الطرقات ويقدم صون النفوس والأعضاء والمنافع على العبادات فيقدم إنقاذ الغريق والحريق ونحوهما على الصلاة إذا كان فيها ، أو خارجا عنها وخشي فوات وقتها فيفوتها ويصون [ ص: 204 ] ما تعين صونه من ذلك وكذلك يقدم صون مال الغير على الصلاة إذا خشي فواته وهو من باب تقديم حق العبد على حق الله تعالى وهي مسألة خلاف فمنهم من يقول حق الله يقدم ؛ لأن حق العبد يقبل الإسقاط بالمحاللة والمسامحة دون حق الله تعالى ومنهم من يقول حق العبد مقدم بدليل ترك الطهارات والعبادات إذا عارضها ضرر العبد ، ونظائر هذه المسائل كثيرة في الشريعة فعلى هذه القاعدة يتضح لك ما يقدم على الحج مما لا يقدم عليه فيقدم حق الوالدين على الحج ، إذا قلنا : إنه على التراخي ؛ لأن حق الوالدين على الفور إجماعا والفوري مقدم على المتراخي وكذلك يقدم حق السيد على الحج ؛ لأن الحج لا يلزم العبد وحق السيد واجب فوري وكذلك يقدم حق الزوج على الحج الفرض إن قلنا إنه على التراخي ؛ لأن حق الزوج فوري وكذلك يمنع الدين الحال الخروج إلى الحج ؛ لأنه فوري ولا يمنع الدين المؤجل .
قال مالك رحمه الله : الحج أفضل من الغزو ؛ لأن الغزو فرض كفاية والحج فرض عين وكان ابن عمر رضي الله عنهما يكثر الحج ولا يحضر الغزو وكذلك تقدم ركعة من العشاء على الحج إذا لم يبق قبل الفجر إلا مقدار ركعة للعشاء والوقوف قال أصحابنا رحمهم الله يفوت الحج ويصلي وللشافعية رحمهم الله أقوال : يفوتها ، ويقدم الحج لعظم مشقته يصلي وهو يمشي كصلاة المسايفة ، والحق مذهب مالك ؛ لأن الصلاة أفضل وهي فورية إجماعا وبالله الإعانة .


