( الفرق الحادي عشر والمائة بين قاعدة ما يضمن وبين قاعدة ما لا يضمن )
اعلم أن في الشريعة ثلاثة لا رابع لها أحدها العدوان كالقتل والإحراق وهدم الدور وأكل الأطعمة وغير ذلك من أسباب إتلاف المتمولات فمن تعدى في شيء من ذلك وجب عليه الضمان إما المثل إن كان مثليا ، أو القيمة إن كان مقوما ، أو غير ذلك من الجوابر على ما تقدم في الفرق بين قاعدة الزواجر والجوابر ، وثانيها التسبب للإتلاف كحفر الآبار في طرق الحيوان في غير الأرض المملوكة للحافر ، أو في أرضه لكن حفرها لهذا الغرض وكوقيد النار قريبا من الزرع ، أو الأندر فتعدو فتحرق ما جاورها وكرمي ما يزلق الناس في الطرقات فيعطب بسبب ذلك حيوان ، أو غيره وكالكلمة الباطلة عند ظالم إغراء على مال إنسان فإن الظالم إذا أخذ المال بذلك السبب من الكلام ضمنه المتكلم وكتقطيع الوثيقة المتضمنة للحق وللشهادة به فيضيع الحق بسبب تقطيعها فيضمن عند أسباب الضمان ذلك الحق لتسببه فيه وعند مالك يضمن [ ص: 207 ] ثمن الورقة خاصة فاعتبر الإتلاف دون السبب الشافعي اعتبرهما معا ورأى أنه أتلف الحق بالمباشرة بالإتلاف وأتلف الحق بالتسبب فرتب على الوجهين مقتضاهما وكمن مر على حبالة فوجد فيها صيدا يمكنه تخليصه وحوزه لصاحبه فتركه حتى مات يضمنه عند ومالك ؛ لأن مالك واجب ومن ترك واجبا في الصون ضمن وكذلك إذا صون مال المسلم وجب عليه أخذها . مر بلقطة يعلم أنه إذا تركها أخذها من يجحدها
وإن تركها حتى تلفت مع قدرته على أخذها ضمنها وللسبب الموجب للضمان نظائر كثيرة منها متفق عليه ومنها مختلف فيه لكن حصل الاتفاق من حيث الجملة على أن التسبب موجب للضمان .
وثالثها وضع اليد التي ليست بمؤتمنة وقولي " ليست بمؤتمنة " خير من قولي اليد العادية فإن اليد العادية تختص بالسراق والغصاب ونحوهم ، وتبقى من الأيدي الموجبة للضمان قبض بغير عدوان بل بإذن المالك كقبض المبيع ، أو بقاء يد البائع فإنه من ضمان البائع قبل القبض ومن ضمان المشتري بعد القبض مع عدم العدوان وكقبض المبيع بيعا فاسدا فإنه من ضمان المشتري عندنا بالقيمة إذا تغير سوقه ، أو تغير في ذاته أو تعلق به حق الغير ، أو تلف بآفة سماوية ، أو أتلفه المشتري وهذا السبب الأخير متفق عليه بيننا وبين الشافعية دون ما قبله من حوالة الأسواق ونحوها وكقبض العواري والرهون التي يغاب عليها كالحلي والسلاح وأنواع العروض على الخلاف في ذلك بيننا وبين وكقبض الأعيان التي تقترض فإن المقترض يضمنها اتفاقا مع عدم العدوان ونظائرها كثيرة وخرج بقولي " التي ليست بمؤتمنة " اليد المؤتمنة كوضع اليد في الودائع والقراض والمساقاة وأيدي الأجراء . الشافعي
ووضع الأيدي عند في الإجارة تختلف فاستثنى منها صورتين مالك كالخياط والصباغ والقصار ؛ لأن السلعة إذا تغيرت بالصنعة لا يعرفها ربها إذا وجدها قد بيعت في الأسواق فكان الأصلح للناس [ ص: 208 ] تضمين الأجراء في ذلك وهو من باب الاستحسان ولم يره : الأجير الذي يؤثر في الأعيان بصنعته رضي الله عنه بل طرد قاعدة الشافعي على حمل الطعام الذي تتوق النفس إلى تناوله كالفواكه والأشربة والأطعمة المطبوخة فإن الأجير يضمن سدا لذريعة التناول منها وطرد الأمانة في الإجارة ، والأجير القاعدة أيضا ههنا فلم يضمن أيضا وكأيدي الأوصياء على أموال اليتامى ، والحكام على ذلك وأموال الغائبين والمجانين فجميع ذلك لا ضمان فيه ؛ لأن الأيدي فيه مؤتمنة فهذه الأسباب الثلاثة هي أسباب الضمان فهي قاعدة ما يضمن وما عداها فهو قاعدة ما لا يضمن كما تقدم من النظائر ، وإذا اجتمع منها سببان الشافعي من جهتين غلبت المباشرة على التسبب كمن حفر بئرا لإنسان ليقع فيه فجاءه آخر فألقاه فيه فهذا مباشر والأول متسبب فالضمان على الثاني دون الأول تقديما للمباشرة على التسبب ؛ لأن شأن الشريعة تقديم الراجح عند التعارض إلا أن تكون المباشرة مغمورة كقتل المكره فإن القصاص يجب عليهما ولا تغلب المباشرة لقوة التسبب وكتقديم السم لإنسان في طعامه فيأكله جاهلا به فإنه مباشر لقتل نفسه . كالمباشرة والتسبب
وواضع السم متسبب ، والقصاص على المتسبب وحده وكشهود الزور ، أو الجهلة يشهدون بما يوجب ضياع المال على إنسان ، ثم يعترضون بالكذب ، أو الجهالة فإنهم يضمنون ما أتلفوه بشهادتهم ولا ينقض الحكم ولا يضمن الحاكم شيئا مع أنه المباشر ، والشاهد متسبب ، غير أن المصلحة العامة قد اقتضت عدم تضمين الحكام ما اخطئوا فيه ؛ لأن الضمان لو تطرق إليهم مع كثرة الحكومات وتردد الخصومات لزهد الأخيار في الولايات واشتد امتناعهم فيفسد حال الناس بعدم الحكام فكان أولى ؛ لأنه متسبب للحاكم في الإلزام والتنفيذ وكما قيل الحاكم أسير الشاهد ويقع في هذا الباب مسائل كثيرة مختلف فيها ولكن الأصل هو ما قدمته في أسباب الضمان وعدمه [ ص: 209 ] الشاهد بالضمان
[ ص: 209 - 211 ]