( ) ابتدأت بهذا الفرق بين هاتين القاعدتين لأني أقمت أطلبه نحو ثمان سنين فلم أظفر به ، وأسأل الفضلاء عن الفرق بينهما وتحقيق ماهية كل واحدة منهما فإن كل واحدة منهما خبر فيقولون الفرق بينهما أن الشهادة يشترط فيها العدد والذكورية والحرية بخلاف [ ص: 5 ] الرواية فإنها تصح من الواحد والمرأة والعبد فأقول لهم اشتراط ذلك فيها فرع تصورها وتمييزها عن الرواية فلو عرفت بأحكامها وآثارها التي لا تعرف إلا بعد معرفتها لزم الدور وإذا وقعت لنا حادثة غير منصوصة من أين لنا أنها شهادة حتى يشترط فيها ذلك فلعلها من باب الرواية التي لا يشترط فيها ذلك فالضرورة داعية لتمييزهما ، وكذلك إذا رأينا الخلاف في إثبات شهر رمضان هل يكتفى فيه بشاهد أم لا بد من شاهدين ، ويقول الفقهاء في تصانيفهم منشأ الخلاف في ذلك هل هو من باب الرواية أو من باب الشهادة . الفرق الأول بين الشهادة والرواية
وكذلك إذا أخبره عدل بعدد ما صلى قالوا ذلك بعينه ، وأجروا الخلاف فيهما لم تتصور حقيقة الشهادة والرواية وتميز كل واحدة منهما عن الأخرى لا يعلم اجتماع الشائبتين منهما في هذه الفروع ، ولا يعلم أي الشائبتين أقوى حتى يرجح مذهب القائل بترجيحها ، ولعل أحد القائلين ليس مصيبا وليس في الفروع إلا إحدى الشائبتين أو أحد الشبهين والآخر منفي أو الشبهان معا منفيان ، والقول بتردد هذه الفروع بينهما ليس صوابا بل يكون الفرع مخرجا على قاعدة أخرى غير هاتين ، وهذا جميعه إنما يتلخص إذا علمت حقيقة كل واحدة منهما من حيث هي هي فحينئذ يتصور هنا اشتراط العدد ، ولا يقبل في ذلك الفرع العدل الواحد ويعتقد أنه مخرج على الشبهين المذكورين وأي القولين أرجح إما مع الجهل بحقيقتهما فلا يتأتى شيء من ذلك ، وتبقى هذه الفروع مظلمة ملتبسة علينا ، ولم أزل كذلك كثير القلق والتشوف إلى معرفته ذلك حتى طالعت شرح البرهان للمازري رضي الله عنه فوجدته ذكر هذه القاعدة وحققها وميز بين الأمرين من حيث هما ، واتجه تخريج تلك الفروع اتجاها حسنا .
وظهر أي الشبهين أقوى ، وأي القولين أرجح ، وأمكننا من قبل أنفسنا إذا وجدنا خلافا محكيا ولم يذكر سبب الخلاف فيه أن نخرجه على وجود الشبهين فيه إن وجدناهما ونشترط ما نشترطه ونسقط ما نسقطه ، ونحن على بصيرة في ذلك كله ، فقال رحمه الله الشهادة والرواية خبران غير أن المخبر عنه إن كان أمرا عاما لا يختص بمعين فهو الرواية كقوله عليه الصلاة والسلام { } والشفعة فيما لا يقسم لا يختص بشخص معين بل ذلك على جميع الخلق في جميع الأعصار والأمصار بخلاف قول العدل عند الحاكم لهذا عند هذا دينار إلزام لمعين لا يتعداه إلى غيره فهذا هو الشهادة المحضة ، والأول هو الرواية المحضة ثم تجتمع الشوائب بعد ذلك [ ص: 6 ] ووجه المناسبة بين الشهادة واشتراط العدد حينئذ وبقية الشروط أن إلزام المعين تتوقع فيه عداوة باطنية لم يطلع عليها الحاكم فتبعث العدو على إلزام عدوه ما لم يكن لازما له . إنما الأعمال بالنيات
فاحتاط الشارع لذلك واشترط معه آخر إبعادا لهذا الاحتمال ، فإذا اتفقا في المقال قرب الصدق جدا بخلاف الواحد ويناسب أيضا اشتراط الذكورية من وجهين : أحدهما أن إلزام المعين سلطان وغلبة وقهر واستيلاء تأباه النفوس الأبية وتمنعه الحمية وهو من النساء أشد نكاية لنقصانهن فإن استيلاء الناقص أشد في ضرر الاستيلاء فخفف ذلك عن النفوس بدفع الأنوثة الثاني أن النساء ناقصات عقل ودين فناسب أن لا ينصبن نصبا عاما في موارد الشهادات [ ص: 7 ] لئلا يعم ضررهن بالنسيان والغلط بخلاف الرواية ؛ لأن الأمور العامة تتأسى فيها النفوس ويتسلى بعضها ببعض فيخف الألم وتقع المشاركة غالبا في الرواية لعموم التكليف والحاجة ، فيروى مع المرأة غيرها فيبعد احتمال الغلط ويطول الزمان في الكشف عن ذلك إلى يوم القيامة ، فيظهر مع طول السنين خلل إن كان بخلاف الشهادة تنقضي بانقضاء زمانها ، وتنسى بذهاب أوانها فلا يطلع على غلطها ونسيانها ولا يتهم أحد في عداوة جميع الخلق إلى يوم القيامة فلا يحتاج إلى الاستظهار بالغير فيكفي الواحد .
وأما الحرية فلأن النفوس الأبية تأبى قهرها بالعبيد الأدنى ، ويخف ذلك عليها بالأحرار وسراة الناس ، ولأن الرق يوجب الضغائن والأحقاد بسبب ما فات من الحرية والاستقلال بالكسب والمنافع فربما بعثه ذلك على الكذب على المعين وإذايته ، وذلك للخلائق يبعد القصد إليه في مجاري العادات فهذا تحقيق البابين .
ووجه المناسبة في الاشتراط في الشهادة دون الرواية وحينئذ نقول [ ص: 8 ] رواية محضة كالأحاديث النبوية وشهادة محضة كإخبار الشهود عن الحقوق على المعينين عند الحاكم ومركب من الشهادة والرواية وله صور أحدها الإخبار عن رؤية هلال رمضان من جهة أن الصوم لا يختص بشخص معين بل عام على جميع المصر أو أهل الآفاق على الخلاف في أنه هل يشترط في كل قوم رؤيتهم أم لا فهو من هذا الوجه رواية لعدم الاختصاص بمعين وعموم الحكم ومن جهة أنه حكم يختص بهذا العام دون ما قبله وما بعده وبهذا القرن من الناس دون القرون الماضية والآتية صار فيه خصوص وعدم عموم فأشبه الشهادة . الخبر ثلاثة أقسام
وحصل الشبهان فجرى الخلاف وأمكن ترجيح أحد الشبهين على الآخر ، واتجه الفقه في المذهبين فإن عضد أحد الشبهين حديث أو قياس تعين المصير إليه
وثانيها قولان لحصول الشبهين من جهة أنه يخبر أن زيدا ابن عمر وليس ابن خالد وهو حكم جرى على شخص معين لا يتعداه إلى غيره فأشبه الشهادة فيشترط العدد ومن جهة أن القائف منتصب انتصابا عاما للناس أجمعين أشبه الرواية فيكفي الواحد غير أن شبه الشهادة هنا أقوى للقضاء على المعين وتوقع العداوة والتهمة في الشخص المعين ، وكونه منتصبا انتصابا عاما مشترك بينه وبين الشاهد فإنه منتصب لكل من تتعين [ ص: 9 ] عليه شهادة يؤديها عند الحاكم ، فهذا الشبه ضعيف فإن قلت : الفرق بينه وبين الشاهد أن القائف يختص بقبيلة معينة وهم القائف في إثبات الأنساب بالخلق هل يشترط فيه العدد أم لا بنو مدلج فينصب الحاكم منهم من يراه أهلا لذلك فدخول نصب الحاكم لذلك واجتهاده وتوسط نظره يبعد احتمال العداوة ويخفف الضغينة في قلب المحكوم عليه بخلاف الشاهد فإن من تعينت عليه شهادة أداها وإن كان مجهولا عند الحاكم ، ويأتي من يزكيه وينفذ الحكم ولا يتوسط نظر الحاكم فتقوى داعية العداوة وتنفر النفوس من سلطنة المخبر عليها بالإلزام قلت هو فرق حسن وهو المستند لمعتقدي ترجيح شبه الرواية غير أن الفرق قد رجح في النفس إضافة الحكم إلى المشترك دونه لقوته ألا ترى أن القائف قد يقبل قوله من غير نصب الإمام لذلك الشخص كما { مجزز المدلجي في نسب أسامة بن زيد } ولم ينقل لنا أنه نصبه لذلك ، ولو وجد من الناس أو من القبائل في عصر من الأعصار من يودعه الله تعالى تلك الخاصية التي أودعها في قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قول بني مدلج قبل قوله أيضا فعلمنا أن عند كثرة البحث والكشف تقوى شائبة الشهادة ، وهذا البحث كله وهذا الترجيح إنما تمكنا منه عند معرفتنا بحقيقة الشهادة والرواية من حيث هما ولو لم يحصل كلام المازري صعب علينا ذلك ، وانسد الباب وانحسم الفقه ورجعنا إلى التقليد الصرف الذي لا يعقل معناه وثالثها . المترجم للفتاوى والخطوط
قال : يكفي الواحد وقيل لا بد من اثنين ومنشأ الخلاف حصول الشبهين أما شبه الرواية فلأنه نصب نصبا عاما للناس أجمعين لا يختص نصبه بمعين . مالك
وأما شبه الشهادة فلأنه يخبر عن معين من الفتاوى والخطوط لا يتعدى إخباره ذلك الخط المعين أو الكلام المعين ويأتي السؤال بالفارق المتقدم والبحث بعينه في القائف ، ورابعها وغيرها . المقوم للسلع وأروش الجنايات والسرقات والغصوب
قال يكفي الواحد في التقويم إلا أن يتعلق بالقيم حد كالسرقة فلا بد من اثنين وروي لا بد من اثنين في كل موضع ومنشأ الخلاف حصول ثلاثة أشباه : شبه الشهادة لأنه إلزام لمعين وهو ظاهر وشبه الرواية ؛ لأن المقوم متصد لما لا يتناهى كما تقدم في المترجم والقائف وهو ضعيف ؛ لأن [ ص: 10 ] الشاهد كذلك وشبه الحاكم لأن حكمه ينفذ في القيمة ، والحاكم ينفذه وهو أظهر من شبه الرواية فإن تعلق بإخباره حد تعين مراعاة الشهادة لوجهين : أحدهما قوة ما يفضي إليه هذا الإخبار وينبني عليه من إباحة عضو آدمي معصوم ، وثانيهما أن الخلاف في كونه رواية أو شهادة شبهة يدرأ بها الحد ، وخامسها القاسم قال مالك يكفي الواحد والأحسن اثنان . مالك
وقال أبو إسحاق التونسي لا بد من اثنين وللشافعية في ذلك قولان ومنشأ الخلاف شبه الحكم أو الرواية أو الشهادة والأظهر شبه الحكم ؛ لأن الحاكم استنابه في ذلك وهو المشهور عندنا وعند الشافعية أيضا وسادسها إذا وشبه الحاكم هنا منتف فإن قضايا الحاكم لا تدخل في العبادات بل شبه الرواية أو الشهادة . أخبره عدل بعدد ما صلى هل يكتفى فيه بالواحد أم لا بد من اثنين
أما الرواية فلأنه لم يخبره عن إلزام حكم لمخلوق عليه بل الحق لله تعالى فأشبه إخباره عن السنن والشرائع ، وأما شبه الشهادة فلأنه إلزام لمعين لا يتعداه وهو الأظهر ، وسابعها أطلق الأصحاب القول في أنه يكفي فيه الواحد ، وكذلك الخارص وقال المخبر عن نجاسة الماء يقبل مالك . قول القاسم بين اثنين
وقال ابن القاسم لا يقبل قول القاسم ؛ لأنه شاهد على فعل نفسه ويقلد المؤذن الواحد في الإخبار عن الوقت ، وكذلك الملاح ومن صناعته في الصحراء في الإخبار عن القبلة إذا كان عدلا يغلب في هذه الفروع شبه الرواية [ ص: 11 ] أما المخبر عن النجاسة فلشبهه بالمفتي والمفتي لم أعلم فيه خلافا أنه يكفي فيه الواحد ؛ لأنه ناقل عن الله تعالى لخلقه كالراوي للسنة ، ولأنه وارث للنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وقول النبي صلى الله عليه وسلم يكفي وحده وكذلك وارثه فالمخبر عن النجاسة أو الصلاة كذلك مبلغ عن النبي صلى الله عليه وسلم غير أن هاهنا فرقا وهو أن المفتي لا يخبر عن وقوع السبب الموجب للحكم بل عن الحكم من حيث هو حكم الذي يعم الخلائق إلى يوم القيامة ، والمخبر عن النجاسة أو الصلاة مخبر عن وقوع سبب جزئي في شخص جزئي .
وهذا شبه شديد بالشهادة أمكن ملاحظته ، وكذلك الخارص إن جعل حاكما يتجه لا راويا ، والحاكم يكفي فيه الواحد وهو ظاهر كلام الأصحاب فيه وفي الساعي أن تصرفهما تصرف الحاكم ، والقاسم أيضا كذلك إن استنابه الحاكم فشائبة الحاكم ظاهرة وإن انتدبه الشريكان أمكن أن يقال إنه من باب التحكيم والمؤذن مخبر عن وقوع السبب ، وهو أوقات الصلوات فإنها أسبابها فأشبه المخبر عن وقوع سبب الملك من البيع والهبة وغيرهما فمن هذا الوجه فارق المفتي .
وكان ينبغي أن لا يقبل إلا اثنان ، ويغلب شائبة الشهادة ؛ لأنها إخبار عن سبب جزئي في وقت جزئي غير أني لم أره مشترطا [ ص: 12 ] وهو حجة حسنة للشافعية في فإنها إخبار عن سبب جزئي في وقت جزئي يعمان أهل البلد ، والأذان لا يعم أهل الأقطار بل لكل قوم زوالهم وفجرهم وغروبهم وهو أولى باعتبار شائبة الشهادة بخلاف هلال رمضان عممه المالكية والحنفية في جميع أهل الأرض ولم يجعلوا لكل قوم رؤيتهم كما قاله الشافعية فالمخبر عن رؤية الهلال على قاعدة المالكية أشبه بالرواية من المؤذن فينبغي أن يقبل الواحد قياسا على المؤذن بطريق الأولى لتوفر العموم في الهلال ، وهنا سؤالان مشكلان على المالكية أحدهما التفرقة بين المؤذن يقبل فيه الواحد وبين المخبر عن هلال رمضان لا يقبل فيه الواحد . الاكتفاء في هلال رمضان بالواحد
وقد تقدم تقريره وثانيهما حصول الإجماع في أوقات الصلوات على أنها مختصة بأقطارها بخلاف الأهلة مع أن الجميع يختلف باختلاف الأقطار عند العلماء بهذا الشأن فقد يطلع الهلال في بلد دون غيره بسبب البعد عن المشرق والقرب منه فإن البلد الأقرب إلى المشرق هو بصدد أن لا يرى فيه الهلال ويرى في البلد الغربي بسبب مزيد السير الموجب لتخلص الهلال من شعاع الشمس فقد لا يتخلص في البلد الشرقي فإذا كثر سيره ، ووصل إلى الآفاق الغربية تخلص فيه فيرى الهلال في المغرب دون المشرق وهذا مبسوط في كتب هذا العلم ولهذا ما من زوال لقوم إلا وهو غروب لقوم وطلوع الشمس عند قوم ونصف الليل عند قوم ، وكل درجة تكون الشمس فيها فهي متضمنة لجميع أوقات الليل والنهار لأقطار مختلفة فإذا قاست الشافعية الهلال على أوقات الصلوات اتجه القياس وعسر الفرق وهو مشكل ، والحق أنه يعتبر لكل قوم رؤيتهم وهلالهم كما يعتبر لكل قوم فجرهم وزوالهم فإن قلت الجواب عن الأول أن المعاني الكلية قد يستثنى منها بعض أفرادها بالسمع ، وقد ورد الحديث الصحيح بقوله عليه السلام { } فاشترط عدلين في وجوب الصوم ومع تصريح صاحب الشرع باشتراط عدلين لا يلزمنا بالعدل الواحد شيء ولا يسمع الاستدلال بالمناسبات في إبطال النصوص الصريحة وعن الثاني أن الأذان عدل به عن صيغة الخبر إلى صفة العلامة على الوقت . إذا شهد عدلان فصوموا وأفطروا وانسكوا
ولذلك كان المؤذن لا يقول دخل وقت الصلاة بل يقول كلمات أخر جعلها صاحب الشرع علامة ودليلا على دخول الوقت ، فأشبهت ميل الظل وزيادته من دلالتهما على دخول الوقت فكما لا يشترط ميلان في الظل ولا زيادتان لا يشترط عدلان ولا مؤذنان وكذلك آلة واحدة من آلات الأوقات تكفي ، ولا يقول أحد إنه يشترط أسطرلابان ولا ميزانان للشمس ؛ لأن ذلك علامة مفيدة ، وكذلك الأذان يكفي فيه الواحد لأنه علامة [ ص: 13 ] قلت هذا بحث حسن غير أن الجواب عن الأول أنه يدل بمفهومه لا بمنطوقه فإن منطوقه أن الشاهدين يجب عندهما ، ومفهومه أن أحدهما لا يكفي من جهة مفهوم الشرط وإذا كان الاستدلال به إنما هو من جهة المفهوم فنقول القياس الجلي مقدم على منطوق اللفظ على أحد القولين وغيره من العلماء فينبغي أن يقدم على المفهوم قولا واحدا ؛ لأن لمالك القاضي أبا بكر وغيره يقول المفهوم ليس بحجة مطلقا .
وهو ضعيف جدا فلا يندفع به القياس الجلي وعن الثاني بأنه يشكل بما إذا قال لنا المؤذن من غير أذان طلع الفجر فإنا نقلده وهو خبر صرف مع أن قوله في الأذان : حي على الصلاة معناه أقبلوا إليها فهو يدل بالالتزام على دخول وقتها ، وكذلك حي على الفلاح .
وأما المخبر بالقبلة فليس مخبرا عن وقوع سبب بل عن حكم متأبد فإن نصب جهة الكعبة المعظمة قياما للناس أمر عام في جميع الأعصار والأمصار لا يختلف بخلاف المؤذن لا يتعدى حكمه وإخباره ذلك الوقت فالمخبر عن القبلة أشبه بالرواية من المؤذن فتأمل هذه الفروق وهذه الترجيحات فهي حسنة ، وكلها إنما ظهرت بعد معرفة حقيقة الشهادة والرواية فلو خفيتا ذهبت هذه المباحث جملتها ولم يظهر التفاوت بين القريب منها للقواعد والبعيد [ ص: 14 ] وثامنها أطلق الأصحاب القول فيه أنه شهادة ، وأنه يشترط فيه العدد ؛ لأنه حكم جزئي على شخص معين لشخص معين ، وأنه متجه غير أن ذلك يعكر على قولهم أنه إذا لم يوجد المسلمون قبل فيه المخبر عن قدم العيب أو حدوثه في السلع عند التحاكم في الرد بالعيب أهل الذمة من الأطباء ونحوهم ، قاله القاضي أبو الوليد وغيره قالوا لأن هذا طريقه الخبر فيما ينفردون بعلمه .
وهذا مشكل من وجهين أحدهما أن الكفار لا مدخل لهم في الشهادة على أصولنا خلافا في الوصية في السفر وشهادة بعضهم على بعض ، وكذلك لا مدخل لهم في الرواية فكيف يصرحون بالشهادة مع قبول الكفرة فيها ، وثانيهما أن قولهم إن هذا أمر ينفردون بعلمه لا عذر فيه حاصل فإن كل شاهد إنما يخبر عما علمه مع إمكان مشاركة غيره له فيه وهؤلاء الكفار يعلمون هذه الأمراض مع إمكان مشاركة غيرهم معهم في العلم بذلك فما أدري وجه المناسبة بين قبول قولهم وبين هذا المعنى مع أن كل شاهد كذلك فتأمل ذلك ، وتاسعها قال لأبي حنيفة ابن القصار قال يجوز مالك مع أنه إخبار يتعلق بجزئي في الهدية والمهدي والمهدى إليه فهو على خلاف القواعد ، ووقع هذا الفرع عند الشافعية وخرجوه بأن المعتمد في هذه الصور ليس هذه الإخبارات بمجردها بل هي مع ما يحتف بها من القرائن ، ولربما وصلت إلى حد القطع وهذه إشارة منهم إلى أنه من باب الشهادة غير أنه استثني منها لوجود القرائن التي تنوب مناب العدول مع عموم البلوى في ذلك ، ودعوى الضرورة إليه فلو كان أحدنا لا يدخل بيت صديقه حتى يأتي بعدلين يشهدان له بإذنه له في ذلك أو لا يبعث بهديته إلا مع عدلين لشق ذلك على الناس ولا غرو في الاستثناء من القواعد لأجل الضرورات ، وعاشرها نقل تقليد الصبي والأنثى والكافر الواحد في الهدية والاستئذان في مراتب الإجماع له إجماع الأمة على ابن حزم مع أنه إخبار عن تعيين مباح جزئي لجزئي . قبول قول المرأة الواحدة في إهداء الزوجة لزوجها ليلة العرس
ومقتضاه أن لا يقبل فيه إلا رجلان ؛ لأنها شهادة تتعلق بالنكاح الذي هو من أحكام الأبدان التي لا يقبل فيها النساء إلا لضرورة غير أن هذه الصورة اجتمع فيها قرائن الأحوال من اجتماع الأهل والأقارب وندرة التدليس والغلط في مثل هذا مع شهرته وعدم المسامحة فيه ودعوى ضرورات الناس [ ص: 15 ] إلى ذلك كما تقدم في الاستئذان والهدية ، فهذه عشر مسائل تحرر قاعدتي الشهادة والرواية بوجود أشباههما فيها ، وتؤكد ذلك تأكدا واضحا في نفس الفقيه بحيث يسهل عليه بعد ذلك تخريج جميع فروع القاعدتين عليهما ، ومعرفة الفرع القريب من القاعدة من البعيد عنها ولنقتصر على هذه العشر خشية الإطالة .