( ) الفرق الثامن عشر والمائة بين قاعدة ما يوجب نقض الجزية وبين قاعدة ما لا يوجب نقضها
اعلم أن عقد الجزية موجب لعصمة الدماء وصيانة الأموال والأعراض إلى غير ذلك مما يترتب عليه وحقيقة عقد الجزية هو التزامنا لهم ذلك بشروط نشترطها عليهم مضت سنة الخلفاء الراشدين بها وهي أيضا مستفادة من قوله تعالى { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } قال في مراتب الإجماع الشروط المشترطة عليهم أن يعطوا أربعة مثاقيل ذهبا في انقضاء كل عام قمري صرف كل دينار اثنا عشر درهما وأن لا يحدثوا كنيسة ولا بيعة ولا ديرا ولا صومعة ولا يجددوا ما خرب منها ولا يمنعوا المسلمين من النزول في كنائسهم وبيعهم ليلا ونهارا ويوسعوا أبوابها للنازلين ويضيفوا من مر بهم من المسلمين ثلاثة وأن لا يأووا جاسوسا ولا يكتموا غشا للمسلمين ولا يعلموا أولادهم القرآن ولا يمنعوا أحدا منهم الدخول في الإسلام ويوقروا المسلمين ويقوموا لهم من المجالس ولا يتشبهوا بهم في شيء من لباسهم ولا فرق شعرهم ولا يتكلمون بكلامهم ولا يتكنوا بكناهم ولا يركبوا على السروج ولا يتقلدوا شيئا من السلاح ولا يحملوه مع أنفسهم ولا يتخذوه ولا ينقشوا خواتيمهم بالعربية ولا يبيعوا الخمر من مسلم ويجزوا مقادم رءوسهم ويشدوا الزنانير ولا يظهروا الصليب ولا يجاوروا المسلمين بموتاهم ولا يطرحوا في طريق المسلمين نجاسة ويخفوا النواقيس وأصواتهم ولا يظهروا شيئا من شعائرهم ولا يتخذوا من الرقيق ما جرت عليه سهام المسلمين ويرشدوا المسلمين ولا يطلعوا عليهم عدوا ولا يضربوا [ ص: 12 ] مسلما ولا يسبوه ولا يستخدموه ولا يسمعوا مسلما شيئا من كفرهم ولا يسبوا أحدا من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ولا يظهروا خمرا ولا نكاح ذات محرم وأن يسكنوا المسلمين بينهم فمتى أخلوا بواحدة من هذه الشروط اختلف في نقض عهدهم وقتلهم وسبيهم وأخذ أموالهم . ابن حزم
واعلم أن الجادة من مذاهب العلماء كمالك والشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهم لا يروا النقض بالإخلال بأحد هذه الشروط كيف كان بل بعضها يوجب النقض وبعضها لا يوجب وقد سبق إلى خاطر الفقيه أن المشروط شأنه الانتفاء عند انتفاء أحد الشروط ولو كان ألف شرط إذا عدم واحد منها لا يفيد حضور ما عداه كما يجده في شرائط الصلاة والزكاة وغيرهما إن عدم شرط واحد عدم جميع الشروط فلذلك يخطر لضعفه الفقهاء أن شروط الجزية ينبغي أن تكون كذلك وليس الأمر كذلك بل مذهب الجمهور هو الصواب وأن قاعدة ما يوجب النقض مخالفة لقاعدة ما لا يوجبه فإن عقد الذمة عاصم للدماء كالإسلام . وابن حنبل
وقد ألزم الله تعالى المسلم جميع التكاليف في عقد إسلامه كما ألزم الذمي جملة هذه الشروط في عقد أمانة فكما انقسم رفض التكاليف في الإسلام إلى ما ينافي الإسلام ويبيح الدماء والأموال كرمي المصحف في القاذورات وانتهاك حرمة النبوات وإلى ما ليس منافيا للإسلام وهو ضربان كبائر توجب التغليظ بالعقوبة ورد الشهادات وسلب أهلية الولاية وصغائر توجب التأديب دون التغليظ .
فكذلك عقد الجزية تنقسم شروطه إلى ما ينافيه كالقتل والخروج عن أحكام السلطان فإن ذلك مناف للأمان والتأمين وهما مقصود العقد وإلى ما ليس بمناف للأمان والتأمين وهو عظيم المفسدة فهو كالكبيرة بالنسبة إلى الإسلام كالحرابة والسرقة وإلى ما هو كالصغيرة بالنسبة إلى الإسلام كسب المسلم وإظهار الترفع عليه فكما أن هذين القسمين لا ينافيان الإسلام ولا يبطلان عصمة الدماء والأموال فكذلك لا يبطلان عقد الجزية لعدم منافاتهما له من جهة الأمن والأمان المقصودين من عقد الجزية والقاعدة الشرعية المشهورة في أبواب العقود الشرعية أنها لا تبطل عقدا من العقود إلا بما ينافي مقصود ذلك العقد دون ما لا ينافي مقصوده وإن كان منهيا عن مقارنته معه فكذلك هنا ينبغي أن لا يبطل عقد الجزية إلا بما تقدم ونحوه وانقسمت هذه الشروط على هذه الطريقة التي هي طريقة الجمهور إلى ثلاثة أقسام منها ما اتفقوا على أنه موجب لمنافاة عقد الذمة كالخروج على السلطان ونبذ العهد والقتل والقتال بمفردهم أو مع الأعداء ونحو ذلك ومنها ما اتفقوا على أنه لا ينافيه كترك الزناد وركوب الخيل [ ص: 13 ] وترك ضيافة المسلمين ونقش خواتمهم بالعربية ونحو ذلك مما تخف مفسدته والقسم الثالث اختلف فيه هل يلحق بالقسم الأول فينتقض عقد الجزية أو بالقسم الثاني فلا ينتقض وها أنا أسرد لك مسائل توضح لك هذه الأقسام قال الأصحاب إذا أظهروا معتقدهم في المسيح عليه السلام أو غيره أدبناهم ولا ينقض به العهد وإنما ينقض بالقتال ومنع الجزية والتمرد على الأحكام وإكراه المسلمة على الزنا فإن أسلم لم يقتل لأن قتله لنقض العهد وكذلك التطلع على عورات المسلمين وأما قطع الطريق والقتل الموجب للقصاص فحكمهم فيه حكم المسلمين وتعرضهم له صلى الله عليه وسلم ولغيره من الأنبياء صلوات الله عليهم موجب للقتل إلا أن يسلموا وروي يوجع أدبا ويشدد به .
فإن رجع عن ذلك قبل منه قال اللخمي إن زنى بالمسلمة طوعا لم ينتقض عهده عند رضي الله عنه وانتقض عند مالك ربيعة . وابن وهب
وإن غرها بأنه مسلم فتزوجها فهو نقض عند ابن نافع وإن علمت به لم يكن نقضا وإن طاوعته الأمة لم يكن نقضا وإن اغتصبها قال محمد ليس بنقض وقيل نقض .
قال فإن عوهد على أنه متى أتى بشيء من ذلك فهو نقض انتقض عهده بذلك قلت وهذه الفروع بعضها أقرب من بعض للقاعدة في النقض فإكراه المرأة المسلمة على الزنا وجعله ناقضا دون الحرابة مشكل بل ينبغي أن يلحق بالحرابة فلا ينتقض أو تلحق الحرابة به فينتقض بطريق الأولى لعموم مفسدة الحرابة في النفوس والأبضاع والأموال وعدم اختصاص ذلك بواحد من الناس قال في الكتاب فإن خرجوا نقضا للعهد والإمام عادل فهم فيء كما فعل عمرو بن العاص بالإسكندرية لما عصت عليه بعد الفتح قال التونسي من أصحابنا لم يجعل رحمه الله القتل في الحرابة نقضا وهو يقول غصب المسلمة على الوطء نقض قال وهو مشكل إلا أن يكون العهد اقتضاه قال مالك ابن القاسم إن كان خروجهم وامتناعهم من الجزية لظلم من الإمام أو غيره ردوا إلى ذمتهم .
وقال محمد بن مسلمة نقض للعهد ولا يؤخذ ولده لبقاء العهد في حقه بخلاف ماله إلا أن يكون من الحرابة وقال حرابة الذمي الداودي إن كان خروجهم من ظلم فهو نقض لأنهم لم يعاهدوا على أن يظلموا من ظلمهم وروي عن عمر رضي الله عنه أنه أخبر أن ذميا نخس بغلا عليه مسلمة فوقعت فانكشفت عورتها فأمر بصلبه في ذلك الموضع وقال إنما عاهدناهم على إعطاء الجزية عن يد وهم صاغرون وروي عن عمر رضي الله عنه نقض العهد بغصب المسلمة قال ابن القاسم إذا أهل الذمة وظفر بهم والإمام عدل قتلوا وتسبى نساؤهم ولا تعرض لمن يظن أنه مغلوب معهم [ ص: 14 ] كالشيخ الكبير والضعيف ولو ذهبوا لبلد الحرب وتركوا أولادهم نقضا للعهد لم يسبوا بخلاف إذا ذهبوا بهم وإلا أن يكون ذلك لظلم أصابهم إلا أن يعينوا علينا المشركين فهم كالمحاربين وقال أيضا إذا حاربوا والإمام عدل استحل سبيهم وذراريهم إلا من يظن به أنه مغلوب كالضعفاء . حارب
ولم يستثن رحمه الله أحدا وألحق الضعفاء بالأقوياء في النقض كما أندرجوا معهم في العقد ولأنه صلى الله عليه وسلم { أصبغ قريظة ونساءهم بعد نقض العهد } قال سبى ذراري ابن القاسم إذا استولى العدو على مدينة المسلمين فيها ذمة فغزوا معهم ثم اعتذروا لنا بالقهر الذي لا يعلم إلا بقولهم فمن قتل منهم مسلما قتل وإلا أطيل سجنه قال المازري رحمه الله وينتقض عهدهم إذا صاروا عينا للحربيين علينا فهذه المسائل توضح لك الأقسام الثلاثة في نقض العهد وما اختلف في كونه ناقضا وما لم يختلف فيه وما هو قريب من النقض وما هو بعيد وتحرر لك بذلك الفرق بين قاعدة ما يوجب النقض وقاعدة ما لا يوجب النقض فتعتبر ما يقع لك من غير المنصوص بالمنصوص
[ ص: 14 - 15 ]