( ونحو ذلك ) الفرق العشرون والمائة بين قاعدة تخيير المكلفين في الكفارة وبين قاعدة تخيير الأئمة في الأسارى والتعزير وحد المحارب
اعلم أن إطلاق الفقهاء رحمهم الله تعالى شائع في كتبهم بأن الأسارى أمرهم موكول إلى خيرة الإمام ، وتولية القضاء موكول إلى خيرة الإمام ، وليس ذلك كقولهم تعيين خصلة في كفارة اليمين موكول إلى خيرة الحانث وليس كذلك بل هما قاعدتان متباينتان فالتخيير في الكفارة في خصالها معناه أن له أن ينتقل عن أي خصلة شاء إلى الخصلة الأخرى بشهوته وما يجده يميل إليه طبعه أو ما هو أسهل عليه فإن الله تعالى ما خيره بينها إلا لطفا به وليفعل ذلك ولو شاء لحتم عليه خصوص كل خصلة كما فعله في خصال الظهار المرتبة بل له الخيرة بهواه [ ص: 17 ] بين الخصوصيات لأنها متعلق الوجوب ولا تخيير فيه فلا جرم ليس له العدول عنه بهواه وشهوته بل يتحتم عليه فعله .
وأما الخصوصيات فله ذلك فيها فهذا هو معنى التخيير بين خصال الكفارة في حق الحانث وأما التخيير بين الخصال الخمس في حق الأسارى عند رحمه الله ومن وافقه وهي القتل والاسترقاق والمن والفداء والجزية فهذه الخصال الخمس ليس له فعل أحدها بهواه ولا لأنها أخف عليه وإنما يجب عليه بذل الجهد فيما هو أصلح للمسلمين فإذا فكر واستوعب فكره في وجوه المصالح ووجد بعد ذلك مصلحة هي أرجح للمسلمين وجب عليه فعلها وتحتمت عليه ويأثم بتركها فهو لا يوجد في حقه الإباحة والتخيير المقرر في خصال كفارة الحنث أبدا لا قبل الاجتهاد ولا بعد الاجتهاد أما قبل الاجتهاد فالواجب عليه الاجتهاد وبذل الجهد في وجوه المصالح ولا تخيير هاهنا في هذا المقام ولا إباحة بل الوجوب الصرف . مالك
وأما بعد الاجتهاد فيجب عليه العمل بالراجح من المصالح ولا خيرة له فيه ومتى تركه أثم فالوجوب قبل والوجوب بعد والوجوب حالة الفكرة فلا تخيير ألبتة وإنما هو وجوب صرف في جميع الأحوال وتسمية الفقهاء رحمهم الله ذلك خيرة إنما يريدون به أنه لا يتحتم عليه قبل الفكر فعل خصلة من هذه الخصال الخمس بل يجتهد حتى يتحصل له الأصلح فيفعله حينئذ بخلاف رد الغصوب وإقامة الحدود فإنها تتحتم عليه ابتداء من غير أن يجعل له في ذلك اجتهاد ولا خيرة له بهذا التفسير فهذا هو وجه تسمية الفقهاء ذلك خيرة وإن هذه الخصال موكولة إلى اجتهاد الإمام وخيرته ووجه ما يعتمده في الأسارى أن من كان منهم شديد الدهاء كثير التأليب على المسلمين برأيه ودهائه فالواجب على الإمام فيه القتل إذا ظهر له ذلك منه في اجتهاده بالسؤال عن أخباره وأحواله وما يتصل به من سيرته وإن كان الأسير قد ظهر له منه أنه ليس من هذا القبيل بل هو مأمون الغائلة وتتألف بإطلاقه طائفة كثيرة على الإسلام أو إطلاق خلق كثير من أسارى المسلمين إذا من عليه قوبل على ذلك بمثله ونحو ذلك من المصالح التي تعرض في النظر والفكر المستقيم بعد بذل الجهد فإنه يمن عليه حينئذ من غير شيء وإن كان لا يرتجى منه ذلك والإمام محتاج للمال لمصالح الغزو وغيره فإنه يفديه بالمال .
وإن رأى المسلمين محتاجين إلى من يخدمهم واسترقهم إن انتفت هذه الوجوه كلها ولم يجد في اجتهاده شيئا من ذلك مصلحة ورأى أن ضرب الجزية مصلحة لما يتوقع من إسلامهم وأنهم قريبون من الإسلام إذا اطلعوا على محاسن الإسلام بمخالطة أهله ورؤيتهم لشعائره [ ص: 18 ] فحينئذ يجب عليه ضرب الجزية عليهم ولا يجوز له العدول عنها إلى غيرها فهو في جميع الوجوه إنما يفعل ما يجب عليه من غير إباحة ولا خيرة في ذلك بهذا التفسير وكذلك تخييره في حد الحرابة معناه أنه يجب عليه بذل الجهد فيما هو الأصلح للمسلمين فإذا تعين له الأصلح وجب عليه ولا يجوز له العدول عنه إلى غيره فإن كان المحارب صاحب رأي وجب عليه قتله .
وإن ظهر له في اجتهاده أنه لا رأي له بل له قوة وبطش قطعه من خلاف فتزول مفسدته عن المسلمين بذلك .
وإن كان يعرف من حاله العفاف وإنما وقع ذلك منه على وجه الفلتة والموافقة لغيره مع توقع الندم منه على ذلك فهذا يجب نفيه ولا يجوز له قتله ولا قطعه بل يفعل ما هو الأصلح للمسلمين فهو أبدا ينتقل من واجب إلى واجب والوجوب دائما عليه في جميع أحواله قبل الاجتهاد يجب عليه الاجتهاد وحالة الاجتهاد هو ساع في أداء الواجب ففعله حينئذ واجب وبعد الاجتهاد يجب عليه فعل ما أدى إليه اجتهاده فلا ينفك عن الوجوب أبدا وذلك هو ضد التخيير والإباحة وإنما خيرته مفسرة بما تقدم من أنه لم يتحتم عليه ذلك ابتداء وله النظر وفعل ما ظهر رجحانه بعد الاجتهاد بخلاف الحدود وغيرها مما عينه الله تعالى ولم يجعل لأحد فيه اجتهادا كالصلاة وصوم رمضان وأخذ الزكاة وتعيين مصرفها في الوجوه الثمانية ورجم الزاني وقطع السارق وأن لا يحد في الزنا إلا بأربعة وفي الأموال والدماء بشاهدين وغير ذلك من المتحتمات فهذا معنى التخيير في هذه الأمور وكذلك قولهم إن تفرقة أموال بيت المال موكولة إلى خيرته معناه أنه يجب عليه أن ينظر في مصالح الصرف يجب عليه تقديم أهمها فأهمها ويحرم عليه العدول عن ذلك ولا خيرة له في ذلك وليس له أن يتصرف في أموال بيت المال بهواه وشهوته بل بحسب المصلحة الراجحة والخالصة بخلاف تخيير المكلف بين خصال الكفارة كما تقدم وتخييره في إخراج شاة من أربعين أو دينار من أربعين فله أن يعين شاة بشهوته وكذلك دينار من الأربعين بهواه وله أن يعين مقدارا من مياه الدنيا للوضوء ولم يتحتم عليه ماء دون ماء وكذلك خيرته في ثياب السترة للصلاة فإذا اجتمعت ثياب فله تعيين واحد منها لسترته بهواه وشهوته .
وكذلك خير الله تعالى في بقعة من بقاع الدنيا يصلي فيها الصلوات الخمس فله أن يعين بقعة منها إذا استوت بهواه وشهوته وكذلك خير الله تعالى في صوم رمضان في أي بقعة شاء من ولده فله أن يصوم في أي دار شاء من ذلك البلد بهواه وهذا جميعه تخيير صرف حقيقة لا مجازا بخلاف تخيير الأئمة في جميع ما تقدم وأكثر تصرفات الأئمة كما تقدم تحريره في الأسارى وغيرهم [ ص: 19 ] غير أمور قليلة جدا أطلق فيها التخيير ومرادهم التخيير على بابه كما هو في حق المكلف ومن ذلك قول الفقهاء رحمهم الله تعالى إنه مخير في أربع حقائق وخمس بنات لبون يأخذ أيها شاء من صاحب الماشية إذا وجد إبله مائتين فإن في كل خمسين حقة وفي كل أربعين بنت لبون وقد وجد الأمران فإن المائتين أربع خمسينات وخمس أربعينات فيخير هاهنا إذا استوى الأمران فإن كان أحدهما أرجح للفقراء فمقتضى القاعدة أنه يجب عليه ما هو الأرجح لقوله صلى الله عليه وسلم { } فظاهر هذا الحديث يقتضي وجوب الأرجح للفقراء وكذلك بيع مال اليتيم من أحد مشتريين مستويين أو تزويج اليتيمة من كفوين مستويين أو تولية القضاء لأحد رجلين مستويين ونحو هذا فإن الأئمة في هذه الصور مساوون لغيرهم من المكلفين في الخيرة المختصة ولا وجوب هاهنا ألبتة بل لهم الترجيح بمجرد إرادتهم من غير ضميمة إليها كالمكلف في إخراج شاة من أربعين سواء بسواء وإطلاق الخيرة في هذه الصور حقيقة وفي تلك الصور فهي وجوب محض بل بمعنى عدم التحتم ابتداء وكون الاجتهاد له مدخل في ذلك القسم المحتم بخلاف غيره من التخييرات فظهر الفرق بين قاعدة تخيير الأئمة وقاعدة تخيير آحاد المكلفين وأن الثاني خيرة حقيقة والأول أكثره مجاز ووجوب صرف كما تقدم مفصلا ممثلا . من ولي من أمر أمتي شيئا فلم يجتهد لهم ولم ينصح فالجنة عليه حرام
( فائدة ) يطلق التخيير في الشريعة على ثلاثة أقسام مختلفة فيطلق التخير بين الشيئين وكل واحد منهما واجب بخصوصه وعمومه كما تقدم في تخيير الأئمة في الأسارى وغيرهم فإن كل شيء فعلوه من ذلك يقع واجبا بخصوصه وهو كونه قتلا أو فداء مثلا وبعمومه من جهة أنه أحد الخصال الخمسة ويكون التخيير بين الشيئين وكل واحد منهما غير واجب بخصوصه ولا بعمومه كالتخيير بين المباحات من المطاعم والملابس ونحوهما فالتخيير بين التمر والزبيب مثلا فالتمر ليس بواجب لا بخصوصه من جهة أنه تمر ولا بعمومه من جهة أنه أحد المتناولات ويكون التخيير بين الشيئين وكلاهما واجب من جهة عمومه دون خصوصه كالتخيير في كفارة الحنث فإن العتق مثلا واجب من جهة أنه أحد الخصال وغير واجب من جهة أنه عتق وكذلك القول في الخصلتين الأخريين من الكسوة والإطعام فقد ظهر لك أن المخير بينهما قد يتصفان بالوجوب من جهة خصوصهما وعمومهما وقد لا يتصفان به لا من جهة خصوصهما ولا عمومهما وقد يتصفان به من جهة عمومها دون خصوصهما وأما الاتصاف بالوجوب من جهة الخصوص دون العموم فمحال شرعا وعقلا بناء على أن الخصوص يتوقف على [ ص: 20 ] العموم وأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب بخلاف العكس فإن العموم لا يتوقف على الخصوص وهو الفرق بينهما فتأمل هذه المباحث والفروق فإنها كلها واقعة في الشريعة وقوعا كثيرا والله أعلم .
[ ص: 17 - 20 ]