( الفرق الرابع والعشرون والمائة بين قاعدة ما يجب توحيد الله تعالى به من التعظيم وبين قاعدة ما لا يجب توحيده به )
اعلم أن توحيد الله تعالى بالتعظيم ثلاثة أقسام واجب إجماعا وغير واجب إجماعا ومختلف فيه هل يجب توحيد الله تعالى به أم لا القسم الأول بالإجماع فذلك كالصلوات على اختلاف أنواعها والصوم على اختلاف رتبه في الفرض والنفل والنذر فلا يجوز أن يفعل شيء من ذلك لغير الله تعالى وكذلك الحج ونحو ذلك وكذلك الخلق والرزق والأمانة والإحياء والبعث والنشر والسعادة والشقاء والهداية والإضلال والطاعة والمعصية والقبض والبسط فيجب على كل أحد أن يعتقد [ ص: 25 ] توحيد الله تعالى وتوحده بهذه الأمور على سبيل الحقيقة وإن أضيف شيء منها لغيره تعالى فإنما ذلك على سبيل الربط العادي لا أن ذلك المشار إليه فعل شيئا حقيقة كقولنا قتله السم وأحرقته النار ورواه الماء فليس شيء من ذلك يفعل شيئا مما ذكر حقيقة بل الله تعالى ربط هذه المسببات بهذه الأسباب كما شاء وأراد ولو شاء لم يربطها وهو الخالق لمسبباتها عند وجودها لا أن تلك الأسباب هذه الموجدة . الذي يجب توحيد الله تعالى به من التعظيم
وكذلك إخبار الله تعالى عن عيسى عليه الصلاة والسلام أنه كان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص معناه أن الله تعالى كان يحيي الموتى ويبرئ عند إرادة عيسى عليه السلام لذلك لا أن عيسى عليه السلام هو الفاعل لذلك حقيقة بل الله تعالى هو الخالق لذلك ومعجزة عيسى عليه السلام في ذلك ربط وقوع ذلك الإحياء وذلك الإبراء بإرادته فإن غيره يريد ذلك ولا يلزم إرادته ذلك فاللزوم بإرادته هو معجزته عليه السلام وكذلك جميع ما يظهر على أيدي الأنبياء والأولياء من المعجزات والكرامات الله تعالى هو خالقها وكذلك يجب توحيده تعالى باستحقاق العبادة والإلهية وعموم تعلق صفاته تعالى فيتعلق علمه بجميع المعلومات وإرادته بجميع الكائنات وبصره بجميع الموجودات الباقيات والفانيات وسمعه بجميع الأصوات وخبره بجميع المخبرات فهذا ونحوه توحيد واجب بالإجماع من أهل الحق لا مشاركة لأحد فيه .
القسم الثاني : وهو المتفق على عدم التوحيد فيه والتوحد ، كتوحيده بالوجود والعلم ونحوهما فمفهوم الوجود مشترك فيه سواء قلنا هو عين الموجود أو غيره فإن قلنا الوجود زائد على الموجود [ ص: 26 ] فهو مشترك فيه في الخارج وإن قلنا وجود كل شيء نفس ماهيته فنريد نفس ماهيته في الخارج وأما في الذهن فنحن نتصور من معنى الوجود معنى عاما يشمل الواجب والممكن فتلك الصورة الذهنية وقعت الشركة فيها فعلمنا أن التوحيد في أصل الوجود غير واقع على التقديرين وكذلك مفهوم العلم من حيث هو علم وقعت الشركة فيه بين الواجب والممكن وكذلك مفهوم الحياة والسمع والبصر والإرادة والكلام النفساني وأنواعه من الطلب في الأمر والنهي والخبر وغير ذلك من أنواع الكلام النفساني ولولا الشركة في أصول هذه المفهومات لتعذر علينا قياس الغائب على الشاهد فإن القياس بغير مشترك متعذر وقياس المباين على مباينه لا يصح .
وقد أورد بعض الفضلاء هذا السؤال فقال إن كان القياس صحيحا لمعنى مشترك بين الشاهد والغائب فقد وقعت المشابهة بين صفات الله تعالى وصفات البشر والله سبحانه وتعالى لا تشبه ذاته ذاتا ولا صفة من صفاته صفة من صفات غيره { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } والسلب الذي في هذه الآية عام في الذات والصفات وإن لم يكن القياس صحيحا تعذر إثبات الصفات فإن مستندها قياس الغائب على الشاهد .
والجواب عن هذا السؤال أن السلب للمثلية المستفاد من الآية صحيح والقياس أيضا صحيح ووجه الجمع بينهما أن المعاني لها صفات نفسية تقع الشركة فيها فبها يقع القياس وتلك الصفات النفيسة حكم لذلك المعنى وحال من أحواله النفسية وهي حالة غير معللة وذلك كما نقول كون السواد سوادا وكون البياض بياضا حالة للسواد والبياض وهي حالة غير معللة وهذه الحال لا موجودة ولا معدومة فليس خصوص السواد الذي امتاز به على جميع الأعراض صفة وجودية قائمة بالسواد وكذلك كونه عرضا ليس بصفة وجودية قائمة بالسواد بل السواد في نفسه بسيط لا تركيب فيه وحقيقة واحدة في الخارج ليس لها صفة بل يوصف بها ولا توصف بصفة وجودية [ ص: 27 ] حقيقة تقوم بها وكذلك القول في بقية المعاني .
فكذلك كون العلم علما صفة نفسية وحالة له ليست صفة موجودة في الخارج قائمة بالعلم فالقياس وقع بهذه الحالة النفسية والحكم النفسي لا بصفة وجودية وكذلك القول في الإرادة والحياة وغيرهما من بقية الصفات وإذا كان القياس إنما هو باعتبار أمر مشترك بين الشاهد والغائب وهو حكم نفسي وحالة ذاتية ليست بموجودة في الخارج فالسلب الذي في الآية معناه أن المثلية منفية بين الذات وجميع الذوات .
وكل صفة له تعالى وبين جميع صفات المخلوقات في أمر وجودي فإنه لا صفة وجودية مشتركة بين الله وخلقه ألبتة بل الشركة إنما وقعت في أمور ليست موجودة في الخارج كالأحوال والأحكام والنسب والإضافات كالتقدم والتأخر والقبلية والبعدية والمعية وغير ذلك من النسب والإضافات أما في صفة وجودية فلا فهذا وجه الجمع بين قياس الشاهد على الغائب وبين نفي المشابهة وبسط هذا في كتب أصول الدين وقد بسطته في شرح الأربعين وأوردت هذا السؤال وأجبت عنه هنالك مبسوطا فهذا القسم ونحوه لا يجب التوحيد فيه على هذا التفسير إجماعا فيجوز أن يوصف المخلوق بأنه عالم ومريد وحي وموجود ومخبر وسميع وبصير ونحو ذلك من غير اشتراك في اللفظ بل باعتبار معنى عام على ما تقدم تفسيره .