( الفرق السادس والعشرون والمائة بين قاعدة ما يوجب الكفارة بالحلف من صفات الله تعالى إذا حنث وبين قاعدة ما لا يوجب كفارة إذا حلف به من ذلك ) صفات الله تعالى خمسة أقسام معنوية وذاتية وسلبية وفعلية وما يشمل الجميع فأما القسم الأول وهي الصفات المعنوية فهي سبعة العلم والكلام القديم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والحياة فهذه كلها يوجب مع الحنث الكفارة فيجوز الحلف بها ابتداء هذا هو مشهور المذهب وقيل لا توجب كفارة لقوله صلى الله عليه وسلم { الحلف بها } ولفظ الله مخصوص بالذات فاندرجت الصفات في المأمور بالصمت به ومستند المشهور ما تقدم مما حكاه { من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت أيوب عليه السلام أنه قال بلى وعزتك ولكن لا غنى لي عن بركتك } وفي هذا القسم مسائل : رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
المسألة الأولى إذا حلف به قلنا نحن تجب به الكفارة لأنه منصرف للكلام القديم وقال الحلف بالقرآن لا تجب [ ص: 40 ] به الكفارة لأنه ظاهر في الكلام المخلوق الذي هو الأصوات فالكلام في تحقيق مناط هل فيه عرف أم لا ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { أبو حنيفة } لم يفهم أحد إلا القرآن الذي هو الأصوات وإذا قيل في مجرى العادة القرآن إنما يسبق إلى الفهم الكلام العربي المعجز والعربي المعجز محدث وهو مروي عن لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو رحمه الله كما قاله مالك رضي الله عنه والأول المشهور عن أبو حنيفة حملا للقرآن على القديم قال صاحب الخصال مالك ابن زرب الأندلسي ويلحق بالقرآن عند إذا مالك أو بما أنزل الله أو بالتوراة أو بالإنجيل واعلم أن هذه أيضا ظاهرة في العرف المحدث فإن الناس لا يفهمون من المصحف إلا الأوراق المرقومة المجلدة بالجلد وهذه محدثة وكذلك التنزيل والإنزال إنما يتصور في الحادث فإن الصفات القديمة لا تفارق موصوفها وما يستحيل مفارقته يستحيل نزوله وطلوعه ومطلق الحركة عليه . حلف بالمصحف
وأما التوراة والإنجيل فهما كلفظ القرآن لا يفهم منهما إلا الكلمات الخاصة التي نزلت باللغة العبرانية وما يوصف باللغة العربية أو العبرانية فهو محدث بالصورة وكذلك قلنا القرآن لكونه موصوفا بكونه عربيا في قوله تعالى { إنا أنزلناه قرآنا عربيا } محدث فإن العربية والعجمية من عوارض الألفاظ والكلام النفسي كان قديما أو محدثا لا يوصف بكونه عربيا ولا عجميا : المسألة الثانية قال الشيخ الإمام أبو الوليد بن رشد في البيان والتحصيل إذا قال علم الله لا فعلت استحب له الكفارة احتياطا تنزيلا للفظ علم الذي هو فعل ماض منزلة علم الله فكأنه قال وعلم الله لا فعلت . مالك
وقال إن سحنون وجبت الكفارة وإلا فلا كفارة عليه لأن حروف القسم قد تحذف فهو كناية تحتمل أراد الحلف وحنث مع حذف أداة القسم والتعبير عن الصفة القديمة بصيغة الفعل فإن أراده وجبت الكفارة وإن أراد الإخبار عن علم الله تعالى بعدم فعله فليس بحلف تجب به كفارة وهو [ ص: 41 ] متجه في قواعد الفقه وقد وقع لبعض النحاة جواز فتح إن بعد القسم وعلل ذلك بأن القسم قد يقع بصيغة الفعل المتعدي فتكون أن معمولة لذلك الفعل المتعدي نحو علم الله وشهد الله أن زيدا لمنطلق فلما كانت مظنة وجود الفعل المتعدي فتحت تنزيلا للمظنون منزلة المحقق والظاهر أنه نقلها لغة عن العرب في فتح أن بعد القسم والجادة على كسرها بعد القسم ( المسألة الثالثة ) الألف واللام في اللغة أصلها للعموم على مذهب جمهور الفقهاء وقد تكون للعهد مجازا عندهم كقوله تعالى { القسم بعلم الله كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول } فهذه اللام للعهد أي عصى الرسول المعهود ذكره الآن فهذا مجاز لأنها استعملت في غير موضوعها لأنها موضوعة للعموم وقد استعملت في الخصوص الذي هو العهد فيكون مجازا فإذا تقررت هذه القاعدة وقال القائل والعلم والقدرة فأصلها في الوضع اللغوي أنها للعموم فتشمل كل علم كان قديما أو حادثا فيجتمع في أفراد هذا العموم العلم القديم وهو موجب والعلم المحدث وهو غير موجب وإذا اجتمع الموجب وغير الموجب ترتب الإيجاب على الموجب ووجود غير الموجب لا يقدح ولا يعارض الموجب كمن وجد منه شرب الخمر وشرب الماء وجب عليه الحد لأجل الموجب .
والقاعدة أن الأصل اعتبار الموجب بحسب الإمكان فيعتبر العلم القديم في إيجاب الكفارة نعم يتجه أن يقال إنه حينئذ اندرج في كلامه ما يسوغ الحلف به وهو العلم القديم وما ينهى عن الحلف به تحريما أو كراهة وهو العلم المحدث والمركب من المأذون فيه والمنهي عنه منهي عنه فتكون يمينه هذه منهيا عنها وإن كانت موجبة للكفارة هذا إذا استعملنا الألف واللام للعموم وإن قلنا إنها للعهد أو قرينة الحلف تصرفها للعهد لأنه الغالب من أحوال المؤمنين كان المراد ما عهد الحلف به وهو العلم القديم فتجب الكفارة من غير نهي وهذا هو الظاهر من أحوال الحالفين هذا ما يتعلق بتلخيص الألف واللام في الصفة إذا حلف بها فإن أضيفت وقال الحالف وعلم الله وقدرة الله ونحو ذلك اندرج في المضاف العلم القديم والمحدث وكذلك [ ص: 42 ] كل صفة تضاف لأن اسم الجنس إذا أضيف عم كقوله عليه السلام { } فعم جميع مياه البحر وميتاته ولأنه المنقول عن الأصوليين والإضافة يكفي فيها أدنى ملابسة كما تقدم بيانه والمحدثات من الصفات والموصوفات تضاف إلى الله تعالى لأنه خلقها وغير ذلك من النسب والإضافات التي بين المخلوق والخالق . هو الطهور ماؤه الحل ميتته
ولذلك قال في قوله تعالى { كعب الأحبار فنفخنا فيه من روحنا } إنه تعالى نفخ فيه روحا من أرواحه إشارة إلى أن أرواح الخلائق كلها مخلوقة وأن روح عيسى عليه السلام من جملتها فأضافها الله تعالى إليه إضافة الخلق إلى الخالق فإذا وضح أن هذه الإضافة تقتضي العموم في القديم والحادث فإن أبقيناها على عمومها شملت الموجب وغير الموجب والمأذون فيه والمنهي عنه فيكون الكلام حينئذ في الإضافة كما تقدم في عموم الألف واللام وإن لم نحملها على عمومها وقلنا بالعهد فهو في الإضافة قليل وإنما هو مسطور للنحاة في الألف واللام وينبغي أن نقول هاهنا إن قرينة حال الحالف والحلف أن هذا العام أريد به الخاص وهو الصفة القديمة خاصة فيقوم هذا التخصيص مقام العهد في لام التعريف ويحصل المقصود وتكون اليمين ملزمة للكفارة من غير نهي وقد نقل عبد الحق في تهذيب الطالب عن أنه قال إن أشهب وجبت الكفارة أو المحدث لم تجب . أراد الحالف بقوله وعزة الله وأمانته المعنى القديم
وقد قال تعالى { سبحان ربك رب العزة } و { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } والقديم لا يكون مربوبا ولا مأمورا به إشارة منه إلى أن الإضافة يكفي فيها أدنى ملابسة ويكون اللفظ حقيقة وأن العزة الحادثة للعباد يمكن أن تضاف إليه إضافة الخلق للخالق ولأجل هذه الاحتمالات والترددات خالفنا جمهور الحنفية في الصفات فقالوا إن تعارف الناس الحلف بها كانت يمينا وإن لم تتعارف الناس بها لم تكن يمينا وسواء كانت الصفات من صفات الذات أو صفات الفعل فاشترطوا الشهرة دوننا وسووا بين الصفات الفعلية والذاتية وسبب اشتراطهم الشهرة أن الشهرة تصير ذلك اللفظ المشهور موضوعا لخصوص القديم الذي يحلف به فتجب به الكفارة وقبل النقل والشهرة يكون اللفظ مترددا بين القديم والمحدث والأصل براءة الذمة ومما يعضد هذا التردد أن النكرات قسمان منهما ما يصدق على القليل والكثير من ذلك الجنس كقولنا ماء ومال وذهب وفضة فيقال للكثير من جميع ذلك ماء وذهب وفضة وكذلك القليل ومن النكرات ما لا يصدق إلا على الواحد من ذلك الجنس ولا يصدق على الكثير منه كقولنا رجل وعبد ودرهم ودينار فلا يقال للرجال الكثيرة رجل وللعبيد عبد ولا للفضة والدراهم الكثيرة درهم [ ص: 43 ] ولا للذهب الكثير والدنانير دينار .
وإن قيل له الذهب بل لا تصدق هذه النكرات إلا على هذا الجنس بقيد الوحدة فصارت أسماء الأجناس منها ما يصلح للقليل والكثير ومنها ما لا يصلح فأمكن أن يقال إنا وإن قلنا بأن الإضافة تقتضي التعميم إنما نقوله في أسماء الأجناس التي تصدق على الكثير أما التي لا تصدق إلا على الجنس بقيد الوحدة فإن إضافتها لا توجب تعميما ولذلك يفهم العموم من قول القائل مالي صدقة ولا يفهم من قوله عبدي حر ولا امرأتي طالق بل لا يفهم مع الإضافة إلا فرد واحد من ذلك الجنس وهو عبد واحد وامرأة واحدة فيحمل قول الأصوليين إن اسم الجنس إذا أضيف عم على اسم الجنس إذا كان يصدق على الكثير بدليل موارد الاستعمال وهو متجه غاية الاتجاه غير أني لم أره منقولا وقد نبهت عليه في شرح المحصول وإذا كان هذا معنى صحيحا يمكن مراعاته فقولنا وعزة الله وأمانة الله من الألفاظ التي لا تصدق على الكثير أمانة بل أمانات ولا أنواع العزة المختلفة أنها عزة بل عزات وكذلك القدرة الكثيرة ولا يقال لها قدرة بل قدرات لأن الأصل فيما هو بهاء التأنيث أن يكون للواحد نحو تمرة وبرمة وضربة وجرحة وإقامة وإذا لم تكن حالة الإضافة تتناول إلا الواحد كما كانت قبل الإضافة وذلك الواحد لا عموم فيه حتى يشمل القديم والمحدث فيبقى مترددا بين الموجب الذي هو القديم وبين غير الموجب الذي هو المحدث والأصل براءة الذمة حتى تحصل شهرة ونقل عرفي في القديم فتجب الكفارة حينئذ وهذا حسن متجه غير أنه لا يطرد في علم الله تعالى إذا قال وعلم الله فإن العلم الكثير يسمى علما بخلاف الإرادة وكذلك السمع والبصر بخلاف الحياة وهذه كلها مباحث حسنة يمكن الجنوح إليها في مجال النظر وتحقيق الفقه .