( القسم الرابع ) من صفات الله تعالى الصفات الفعلية كقوله وخلق الله ورزق الله وعطاء الله وإحسان الله ونحو ذلك مما يصدر عن قدرة الله تعالى منهي عنه ولا يوجب كفارة إذا حنث وهاهنا خمس مسائل ( المسألة الأولى ) قال فالحلف بهذه الصفات ابن يونس قال أصحابنا : " معاد الله ليست يمينا إلا أن يريد اليمين " وقيل : معاد الله وحاشا الله ليستا بيمين مطلقا لأن المعاد من العود ومحاشاة الله تعالى التبرئة إليه فهما فعلان محدثان يريد إلا أن يريد اليمين وقيل إن لفظ معاد الله كناية يحتمل أن يريد بها ذات الله تعالى وصفاته العلى فإن معادا من العود وهو اسم مكان العود والله تعالى يعود إليه الأمر كله كقوله تعالى { وإليه يرجع الأمر كله } فإطلاق لفظ المكان على الله تعالى من المعاد والمرجع مجاز والمجاز يفتقر إلى نية فهي كناية إذا أريد بها المجاز كان حلفا بقديم وهو وجود الله تعالى وإن لم تكن له نية كان منصرفا لحقيقته وهو المعاد الحقيقي فيكون حلفا بمحدث فلا يلزم به شيء ثم إذا أراد به الحلف فلا يخلو إما أن ينصبه أو يرفعه أو يخفضه .
فإن نصبه كان التقدير ألزم نفسي معاد الله ويكون الإلزام هاهنا إلزاما حقيقيا لموجب اليمين وهو الكفارة ولا بد في ذلك من نية أو عرف كما تقدم في قوله [ ص: 47 ] علي عهد الله وكفالة الله ونحوه فلا بد من هاتين النيتين وأما إن رفع فتقديره معاد الله قسمي فيكون جملة اسمية خبرية استعملت في الإنشاء للقسم بها إما بالنية أو بالعرف الموجب لنقل الخبر من أصله اللغوي إلى الإنشاء وإن لم ينو لم يلزم به شيء فإن كل قسم لا بد فيه من الإنشاء فمتى عدم الإنشاء لم يكن قسما لأن الخبر بما هو خبر لا يوجب كفارة ولا هو قسم وكذلك إذا قلت أقسم بالله لقد قام زيد هو جملة إنشائية ولذلك لا تحتمل التصديق والتكذيب وإن خفض كان على حذف حرف الجر من القسم كقولهم الله بالخفض ولا بد أيضا من نية الإنشاء أو عرف يقتضي ذلك .
وأما حاشا لله فمعناه براءة لله أي براءة منا لله ويحتمل هذا أيضا أن يكون كناية وأن يراد به الكلام القديم وتصح إضافته إليه تعالى باللام فإن الله تعالى ينزه نفسه بكلامه النفساني وذلك التبرؤ قديم وهو لله تعالى فتمكن إضافته إليه تعالى باللام فإن وجدت نية لذلك رتبة أخرى في القسم به أو عرف يقوم مقامها وجبت الكفارة وإن لم يوجب ذلك لم تجب الكفارة فهو كناية كما مر في مثل معاد الله مع أن أبي يونس لم ينقل إيجاب الكفارة مع النية إلا في معاد الله خاصة : المسألة الثانية هاهنا ألفاظ اختلف في مدلولها هل هو قديم فيجوز الحلف به وتلزم به الكفارة أو هو محدث فلا يجوز الحلف به ولا تلزم به الكفارة تخريجا على قواعدهم وهذه الألفاظ هي غضب الله ورحمته ورضاه ومحبته ومقته كقوله تعالى { كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } وكذلك بغضه في قوله عليه الصلاة والسلام { } وكذلك رأفته في قوله تعالى { أبغض المباح إلى الله الطلاق وإن الله ليبغض الحبر السمين لرءوف رحيم } ونحو ذلك من هذه الألفاظ التي حقائقها لا تتصور إلا في البشر والأمزجة والمخلوقات ولما استحالت حقائقها على الله تعالى وتعين حملها على المجاز فاختلف العلماء في المجاز المراد بها [ ص: 48 ]
فقال رضي الله عنه المراد بهذه الأمور إرادة الإحسان لمن وصف بذلك من الخلق في صفة الرحمة ونحوها وإرادة العقوبة لمن وصف بذلك من الخلق في لفظ الغضب ونحوه وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه المراد بذلك أن الله تعالى يعاملهم معاملة الراحم والغضبان فيكون المراد في الأول الإحسان نفسه وفي الثاني العقاب نفسه فغضب الله تعالى عند الشيخ إرادته العقاب وعند القاضي العقاب وكذلك الرحمة هل هي إرادة الإحسان أو الإحسان نفسه ورضاه تعالى إرادة الإحسان أو يعاملهم معاملة الراضي فيحسن إليهم أي يفعل بهم ذلك ومحبته إرادة الإحسان في قوله تعالى { القاضي أبو بكر الباقلاني يحبهم ويحبونه } والإحسان نفسه وكذلك بقية هذه الألفاظ تتخرج على هذين المذهبين وقد ورد الرضى بمعنى ثالث يرجع إلى الكلام القديم كقوله تعالى { ولا يرضى لعباده الكفر } أي لا يشرعه دينا للعباد وشرعه تعالى كلامه القديم وفي القرآن مواضع يتعين فيها مذهب الشيخ ومواضع يتعين فيها مذهب القاضي ومواضع تحتمل المذهبين فالأول كقوله تعالى { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما } فهذا ظاهر في الإرادة لأن الوسع عبارة عن عموم التعلق ويدل على ذلك أيضا اقترانها بالعلم وإن وسع الرحمة [ ص: 49 ] كوسع العلم وهذا ظاهر في الإرادة .
وأما ما يتعين فيه مذهب القاضي فقوله تعالى { هذا رحمة من ربي } إشارة إلى السد وهو إحسان من الله تعالى لا إرادة الله تعالى القديمة وأما ما يحتمل الأمرين فقوله تعالى { الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم } يحتمل في الرحمن الرحيم أنه يريد الإحسان أو الإحسان نفسه يحتمل المذهبين لعدم القرينة ومذهب الشيخ أقرب من مذهب القاضي رضي الله عنهما وسبب ذلك أن الرحمة التي وضع اللفظ بإزائها وهو حقيقة فيها هي رقة الطبع .
وإذا رق طبعك على إنسان فإن هذه الرقة في القلب يلزمها أمران أحدهما إرادة الإحسان إليه والثاني الإحسان نفسه فهما لازمان للرقة التي هي حقيقة اللفظ والتعبير بلفظ اللزوم عن اللازم مجاز عرفي شائع فلذلك تجوز العلماء إليها غير أن إرادة الإحسان ألزم للرقة فإن كل من رحمته وأحسنت إليه فقد أردت الإحسان إليه وقد تريد الإحسان وتقصر قدرتك عن الإحسان إليه فالإرادة أكثر لزوما للرقة وإذا قويت العلاقة كان مجازها أرجح فمجاز الشيخ أرجح لأنه الإرادة فإن قلنا بمذهب الشيخ كانت هذه الأمور قديمة يجوز الحلف بها ويلزم بها الكفارة أو على مذهب القاضي كانت محدثة لا يلزم بها كفارة وينهى عن الحلف بها ( المسألة الثالثة ) قال ابن يونس الحالف برضى الله تعالى ورحمته وسخطه عليه كفارة واحدة يعني لأنه كرر الحلف بصفة واحدة وهي الإرادة فتجب كفارة واحدة وهذا يدل على أن الفتيا بطريقة في حمل هذه الأمور على الإرادة وأنه إذا جمع بين عشرة أو أكثر من هذه الأمور لا تجب إلا كفارة واحدة بخلاف قوله وعلم الله وقدرة الله وإرادة الله وعزة الله فإنه يختلف فيه هل تتعدد عليه الكفارة لتغاير الصفات المحلوف بها أو تتحد الكفارة بناء على أن قاعدة الأيمان التأكيد حتى يريد الإنشاء بخلاف تكرير الطلاق الأصل فيه الإنشاء حتى يريد التأكيد أو قاعدة الجميع الإنشاء حتى يريد التأكيد وهذا هو الأنظر والأول هو المشهور في المذهب [ ص: 50 ] واعلم أن الفتيا بإلزام الكفارة في هذه الألفاظ على ما يقله الشيخ أبي الحسن ابن يونس إن لم يقيد بأنه نوى إرادة الله تعالى فهو مشكل فإن اللفظ حقيقة في أمور محدثة لا توجب كفارة .
وإنما حملت على هذه الإرادة القديمة مجازا ولم تشتهر في الإرادة حتى صارت حقيقة عرفية في الإرادة بل مجاز خفي دل الدليل عند على أنه المراد باللفظ والقاعدة أن الألفاظ لا تنصرف لمجازاتها الخفية إلا بالنية وأن اللفظ لا يزال منصرفا إلى الحقيقة اللغوية دون مجازه المرجوح حتى تصرفه نية المجاز المرجوح فإلزام الكفارة بمجرد هذه الألفاظ من غير نية خلاف القواعد بل ينبغي أن يقال إن أراد بهذه الألفاظ صفة قديمة لزمته الكفارة وإلا فلا ( المسألة الرابعة ) إذا قيل لك رحمة الله وغضبه قائمان بذاته أم لا وهل هما واجبا الوجود أم لا وهل كانا في الأزل أم لا ونحو ذلك من الأسئلة فخرج جوابك في جميع هذه الأسئلة في جميع هذه الألفاظ على مذهب الشيخ أبي الحسن وعلى مذهب القاضي فعلى مذهب الشيخ تقول قائمان بذاته واجبا الوجود أزليان صفتان لله تعالى وعلى مذهب القاضي تقول ليسا قائمين بذاته بل ممكنان مخلوقان حادثان ليسا بأزليين . الشيخ أبي الحسن
وكذلك جميع ما يرد من هذه الأسئلة في جميع هذه الألفاظ ( المسألة الخامسة ) مقتضى ما قاله رحمه الله في قوله علي ميثاق الله وكفالته أنه يوجب الكفارة أنه إذا قال هاهنا علي رزق الله أو خلقه أن تجب عليه الكفارة [ ص: 51 ] فإن المدرك هناك إن كان هو أن العرف نقلها لنذر الكفارة في زمانه رضي الله عنه فصار النطق بهذه العبارة نذرا للكفارة فتلزمه بالنذر لا بالحلف لأنه هو مقتضى لفظ علي فإنها لا تستعمل إلا في النذر ونحوه وليست من حروف القسم إجماعا بل من حروف اللزوم والنذر كقوله لله علي صوم يوم وصدقة دينار ونحو ذلك فكذلك يلزمه هنا إذا وجد عرف في رزق الله وخلقه وأنه صار قوله علي رزق الله أنه نذر أن يتصدق بشيء من رزق الله تعالى أو ببعض خلقه من نبات أو جماد أو حيوان مما يسوغ التصدق به كالبقرة والغنم ونحوهما وأن يسوي بين المسألتين إن وجد في العرف الموجب لنقلهما للنذر لزم وإن لم يوجد العرف الناقل للنذر لم يلزم وكذلك إذا وجد عرف يوجب النقل لنذر غير الكفارة يجب ذلك المعنى الذي نقل العرف اللفظ إليه فيجب ولا تجب الكفارة بل يدور مع العرف كيفما دار وإن كان المدرك النية فتصح أيضا في خلق الله تعالى ورزقه أن ينوي بهما إرادة الخلق وإرادة الرزق الإرادة القديمة فتجب الكفارة إن كان نوى الحلف أو النذر إن كان نوى بعض المندوبات من الأفعال . مالك
وعلى كل تقدير فالمسألتان سواء واعلم أنه إذا كان المدرك العرف الناقل فلا بد من النقل في لفظة علي إلى القسم فتكون بمعنى الباء والواو وحروف القسم [ ص: 52 ] فتجب الكفارة وتكون يمينا أو يقع النقل في أمانة الله وميثاقه ويكون قد عبر بهما عما يلزمه بسبب الحنث فيهما وهو الكفارة فيكون نذرا للكفارة بلفظ الموجب لها نقلا عرفيا ويكون مجازا رابحا من باب التعبير بالسبب عن المسبب فإن الكفارة مسببة على الحلف بهذه الألفاظ فلا بد من أحد هذين النقلين فيما قاله في قوله علي عهد الله وميثاقه ومتى فقد النقل فلا بد من النية الصارفة للنذر أو الحلف بالصفة القديمة واستعمال علي مجاز ومتى فقد العرف والنية تعين أن لا يجب بجميع هذه الألفاظ شيء ألبتة كما لو قال علي علم الله وعلي سمع الله وبصره فإن هذه الألفاظ لا توجب شيئا إلا بالنية ونقل عرفي ولعل الإمام حمل ذلك على ذلك فتأمل . مالك