اعلم أن النساء على الإطلاق وتتصرف في بضعها كانت ثيبا أو بكرا رشيدة في مالها أم لا دنية عفيفة أم فاخرة وأما الأموال فيفرق فيها بين الرشيدة الثيب وغيرها فيجوز لها التصرف ولا يجوز للولي الاعتراض عليها وإن كان أباها الذي هو أعظم الأولياء لأن له ولاية الجبر والفرق من وجوه لا يجوز لامرأة أن تزوج نفسها
( أحدها ) أن الإبضاع أشد خطرا وأعظم قدرا فناسب أن لا تفوض إلا لكامل العقل ينظر في مصالحها والأموال خسيسة بالنسبة إليها فجاز تفويضها لمالكها إذ الأصل أن لا يتصرف في المال إلا مالكه
( وثانيها ) أن الإبضاع يعرض لها تنفيذ الأغراض في تحصيل الشهوات القوية التي يبذل لأجلها عظيم المال ومثل هذا الهوى يغطي على عقل المرأة وجوه المصالح لضعفه فتلقي نفسها لأجل هواها فيما يرديها في دنياها وأخراها فحجر عليها على الإطلاق لاحتمال توقع مثل هذا الهوى المفسد ولا يحصل في المال مثل هذا الهوى والشهوة القاهرة التي ربما حصل الجنون وذهاب العقل بسبب فواتها
( وثالثها ) أن المفسدة إذا حصلت في الإبضاع بسبب زواج غير الأكفاء حصل الضرر وتعدى للأولياء بالعار والفضيحة الشنعاء وإذا حصل الفساد في المال لا يكاد يتعدى المرأة وليس فيه من العار والفضيحة ما في الإبضاع والاستيلاء عليها من [ ص: 137 ] الأرذال الأخساء فهذه فروق عظيمة بين القاعدتين وقد سئل بعض الفضلاء عن المرأة تزوج نفسها فقال في الجواب المرأة محل الزلل والعار إذا وقع لم يزل وفي الفرق مسألتان ( المسألة الأولى )
قال مالك والشافعي رضي الله عنهم لا يجوز وابن حنبل ولا على غيرها من النساء بكرا كانت أو ثيبا رشيدة أو سفيهة أذن لها الولي أم لا وقال عقد المرأة على نفسها رضي الله عنه يجوز للرشيدة أن تزوج نفسها واحتج على ذلك بوجوه أحدها قوله تعالى { أبو حنيفة أن ينكحن أزواجهن } وقوله تعالى { حتى تنكح زوجا غيره } فأضاف العقد إليها دون الولي وهو ظاهر في المباشرة وأذن الشرع لها في ذلك
( وثانيها ) أنها متصرفة في مالها ففي نفسها بطريق الأولى لأنها أعلم بأغراضها من وليها ومصلحة المال التي هي التنمية معلومة للولي كما هي معلومة للمرأة
( وثالثها ) أن الأصل عدم الحجر على العاقل والبالغ وهي عاقلة بالغة فيزول الحجر عنها مطلقا في نفسها ومالها
( ورابعها ) قوله عليه الصلاة والسلام { } والفقهاء يستدلون به على بطلان قول أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل وهو يدل بمفهومه على أن الولي إذا أذن لها يجوز عقدها وهم لا يقولون به ويمكن الاستدلال على صحة مذهب أبي حنيفة من جهة أن عقدها على نفسها إذا صح مع الإذن صح مطلقا لأنه قائل بالفرق أبي حنيفة
( والجواب ) عن الأول أن النكاح حقيقة في الوطء ونحن نقول بموجبه فإن الوطء لها دون وليها فإن قلت الزوج هو الفاعل لذلك دون المرأة قلت مسلم فيحمل على التمكين من ذلك الفعل لأنه أقرب للحقيقة من العقد والمجاز الأقرب يجب المصير إليه عند تعذر الحقيقة ويوضحه قوله تعالى { وأنكحوا الأيامى منكم } فخاطب الأولياء بصيغة الأمر الدالة على الوجوب ولو كان ذلك للمرأة لتعذر ذلك كما أنه لا يصح أن يقال للأولياء بيعوا أموال النساء لأن التصرف في الأموال لهن وقوله عليه السلام { } خرجه لا تزوج المرأة المرأة ولا المرأة نفسها فإن الزانية هي التي تزوج نفسها وقال إنه حديث حسن صحيح الدارقطني
( وعن الثاني ) الفرق بين الإبضاع والأموال ما تقدم
( وعن الثالث ) أن الدليل دل على مخالفة ذلك الأصل وهو الحديث والآيات السابقة
( وعن الرابع ) أن القاعدة المنصوص عليها في أصل الفقه أن إجماعا وضابط ذلك أن يكون الوصف المذكور غالبا [ ص: 138 ] على وقوع ذلك الحكم المذكور أو على تلك الحقيقة المحكوم عليها كقوله تعالى { الوصف إذا خرج مخرج الغالب لا يكون حجة ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } فإن القتل الغالب عليه أن لا يقع في الأولاد إلا لتوقع ضرر كالإملاق الذي هو الفقر أو نحو ذلك من الفضيحة فلا تكون له دلالة على جواز القتل عند عدم خوف الإملاق وكذلك قوله عليه السلام { } والغالب على الغنم السوم لا سيما أغنام في الغنم السائمة الزكاة الحجاز فلا يكون مفهومه حجة على عدم وجوب الزكاة في المعلوفة وكذلك ههنا الغالب أن المرأة لا تقدم على زواج نفسها إلا خفية عن وليها وهو غير آذن لها في ذلك والعادة قاضية بذلك فإذا خرج مخرج الغالب فلا يكون حجة إجماعا قال صاحب الجواهر لا خلاف عندنا أنها لا تكون وليا على امرأة وروي عن ابن القاسم أنها تكون ولية على عبيدها ومن وصيت عليه من أصاغر الذكور دون الإناث والفرق من ثلاثة أوجه
( أحدها ) أن للصبي أهلية العقد بعد البلوغ وكذلك العبد بعد العتق
( وثانيها ) أنهما قادران على رفع العقد بعد البلوغ بالطلاق
( وثالثها ) أن الولاية عليهما ليست لطلب الكفاءة المحتاجة لدقيق النظر بخلاف الأنثى في ذلك ( المسألة الثانية )
في قال الله تعالى { العفو عن الصداق وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون } أي يعفو النساء عن النصف الذي وجب لهن فيسقط وهذا متفق عليه بين العلماء ثم قال { أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } قال الذي بيده عقدة النكاح المشار إليه هو الأب في ابنته والسيد في أمته وقال مالك أبو حنيفة والشافعي هو الزوج واحتجوا على ذلك بوجهين وابن حنبل
( أحدهما ) أنه قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك صريحا
( وثانيهما ) أن الأصل يقتضي عدم تسليط الولي على مال موليته
( والجواب ) عن الأول أنه ضعيف لا تقوم به حجة سلمنا صحته لكن لا نسلم أنه تفسير للآية بل إخبار عن حال الزوج قبل الطلاق أن له أن يفعل ذلك
( وعن الثاني ) أن قاعدة الولاية تقتضي تصرف الولي بما هو أحسن للمولى عليه وقد يكون العفو أحسن للمرأة لاطلاع الولي على الترغيب فيها لهذا الزوج أو غيره وأن ذلك يفضي إلى تحصيل أضعاف المعفو عنه فيفعل ذلك لتحصيل المصلحة فمنعه من ذلك تفويت لمصلحة المرأة لا رفق [ ص: 139 ] بها ثم الآية تدل لنا من عشرة أوجه
( أحدها ) أن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي والمتقدم قبل هذا الاستثناء إثبات النصف فعلى رأينا تعفو المرأة فيسقط فتطرد القاعدة وعلى رأيهم يعفو الزوج فيثبت مع هذا النصف الذي تشطر بالطلاق فلا تطرد القاعدة بوقوع الإثبات بعد الإثبات
( وثانيها ) أن الأصل في العطف بأو التشريك في المعنى فقوله تعالى { إلا أن يعفون } معناه الإسقاط وقوله تعالى { أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } على رأينا الإسقاط فيحصل التشريك وعلى رأيهم الإثبات فلا يحصل التشريك فيكون قولنا أرجح
( وثالثها ) أن المفهوم من قولنا إلا أن يكون كذا وكذا تنويع لذلك الكائن إلى نوعين والتنويع فرع الاشتراك في المعنى ولا مشترك بين النفي والإثبات والإسقاط والإعطاء حتى يحسن تنويعه وعلى رأينا المتنوع الإسقاط إلى إسقاط المرأة وإسقاط الولي فكان قولنا أرجح
( ورابعها ) أن العفو ظاهر في الإسقاط وهو ما ذكرناه وعلى رأيهم يكون التزام ما سقط بالطلاق والتزام ما لم يجب لا يسمى عفوا
( وخامسها ) أن إقامة الظاهر مقام المضمر خلاف الأصل فلو كان المراد الزوج لقيل إلا أن يعفون أو تعفو عما استحق لكم فلما عدل إلى الظاهر دل على أن المراد غير الزواج
( وسادسهما ) أن المفهوم من قولنا بيده كذا أي يتصرف فيه والزوج لا يتصرف في عقد النكاح بل كان يتصرف في الوطء بالحل والولي الآن هو المتصرف في العقد فيتناوله اللفظ دون الزوج
( وسابعها ) سلمنا أن الزوج بيده عقدة النكاح لكن باعتبار ما كان ومضى فهو مجاز والولي بيده عقدة النكاح الآن فهو حقيقة والحقيقة مقدمة على المجاز
( وثامنها ) أن المراد بقوله { إلا أن يعفون } الرشيدات إجماعا إذا المحجور عليهن لا ينفذ الشرع تصرفهن فالذي يحسن مقابلتهن بهن المحجورات على أيدي الأولياء أما الأزواج فلا مناسبة فيهم للرشيدات
( وتاسعها ) أن الخطاب كان مع الأزواج بقوله تعالى { وقد فرضتم لهن فريضة } وهو خطاب مشافهة فلو كانوا مرادين في قوله تعالى { الذي بيده عقدة النكاح } لقال أو تعفو بلفظ تاء الخطاب فلما قال { أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } وهو خطاب غيبة لزم تغير الكلام من الخطاب إلى الغيبة وهو وإن كان جائزا لكنه خلاف الأصل
( وعاشرها ) أن وجوب الصداق أو بعضه قبل المسيس خلاف الأصل لأن استحقاق تسليم العوض [ ص: 140 ] يقتضي بقاء المعوض قابلا للتسليم أما مع تعذره فلا بشهادة البيع والإجارة كذلك إذا تعذر تسليم المبيع أو المنفعة لا يجب تسليم العوض في ذلك فإسقاط الأولياء النصف على وفق الأصل وتكميل الزوج على خلاف الأصل ولذلك قال في المدونة لا يجوز ذلك للأب قبل الطلاق قال مالك ابن القاسم إلا بوجه نظر من عسر الزوج أو غيره ولا يلحق الوصي بالأب لقصور نظره عنه وفي الجلاب والفرق أن استحقاقه بعد الطلاق قبل الدخول خلاف الأصل فسلط الأب عليه إذا رآه نظرا بخلاف الدخول لتعين الاستحقاق فغلب حق الزوجة لا يجوز للأب العفو قبل الطلاق ولا بعد الدخول بخلاف الطلاق قبل الدخول
( فائدة ) يروى أن بعض الأدباء دخل على بعض الخلفاء فأنشده هذه الأبيات :
من كان مسرورا بمصرع مالك فليأت نسوتنا بوجه نهار يجد النساء حواسرا يندبنه
قد قمن قبل تبلج الأسحار قد كن يخبئان الوجوه تسترا
والآن حين بدون للنظار
( أحدهما ) أن صدر البيت بالهمز في قوله يخبئان الوجوه فقياسه أن يقول بدأن مثل يخبئان بالهمز فيهما فخطر له أنه يغتر بذلك فيخطأ فلم يفعل ذلك
( وثانيهما ) قصد التخطئة أن الواو تكون ضمير الفاعل المذكر فلا يجوز أن يقول بدون بالواو لأن ضمير النسوة لا يكون بالواو فما حمله ذلك على الخطأ بل نطق بالصواب وهو الواو وما ذكرت هذه الأبيات إلا لتعلقها بالآية لقوله تعالى في النساء { إلا أن يعفون } بالواو فضعفه بعض الفقهاء بقوله كيف يجيء ضمير المؤنث بالواو وليس كما خطر له وليس الواو هنا ضميرا بل من نفس الفعل لأنه من عفا يعفو بالواو وكذلك هي في الأبيات هو من بدا يبدو بالواو وشأن ضمير المؤنث الذي هو النون يحقق آخر الفعل فإن كان ياء بقي ياء وإن كان واوا بقي واوا وإن كان همزة بقي همزة وأي حرف كان بقي على حاله مثال الياء قولك رمي يرمي فنقول النسوة رمين بالياء والواو كقولك دعا يدعو والنسوة دعون والهمزة [ ص: 141 ] نحو قرأ يقرأ والنسوة قرأن فلذلك قال الله تعالى يعفون بالواو وقال الشاعر :
بدون للناظر
ويروى أن بعض الأدباء المشهورين طرحت عليه هذه الأبيات فأخطأ فيها وقال بدأن للنظار فخطئ وفي الأبيات سؤال آخر مشكل من جهة المعنى وهو أن هذا القائل قصد شيئا وهو إخمال الشماتة وكلامه يقتضي تقويتها فإن قوله :من كان مسرورا بوقعة مالك أو بمصرع مالك فليأت نسوتنا بوجه نهار
( والجواب ) عنه أن عادة العرب أنها لا تقيم مأتما ولا تفعل النسوة هذا الفعل إلا بعد أخذ ثأر من يفعل ذلك في حقه ومن لا يؤخذ بثأره لا يستحق عندهما أن يقام له مأتم ولا يبكى عليه فلذلك قال أيها الشامت انظر كيف حال النسوة وذلك يدل على أنا أخذنا بثأره وذهبت شماتة الشامت به عندهم أو خفت فهذا وجه هذه الأبيات .