( الفرق الحادي والستون والمائة بين قاعدة ما هو صريح في الطلاق وبين قاعدة ما ليس بصريح فيه )
اعلم أن لفظ الصريح من قول العرب لبن صريح إذا لم يخالطه شيء ونسب صريح إذا لم يكن فيه شائبة من غيره فأما إذا كان اللفظ يدل على معنى لا يحتمل غيره إلا على وجه البعد فهو صريح وفي المقدمات للقاضي أبي الوليد في الصريح ثلاثة أقوال فعند القاضي عبد الوهاب لفظ الطلاق وما تصرف منه [ ص: 153 ] وقاله . أبو حنيفة
وقال ابن القصار كالخلية والبرية ونحوهما ، وقيل ما ذكره الله تعالى في كتابه العزيز كالطلاق والسراح لقوله تعالى { الصريح الطلاق وما اشتهر معه فطلقوهن لعدتهن } وقوله تعالى { أو تسريح بإحسان } والفراق لقوله تعالى { وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته } ، وقاله الشافعي وبماذا يلزم هل بالنية فقط وابن حنبل ويريد بالنية التطليق بالكلام النفساني ، وقيل باللفظ فقط قال وهو موجود في المدونة ، وقيل لا بد من اجتماعهما هذا في الفتيا . لمالك
وأما في القضاء فيحكم عليه بصريح الطلاق وكنايته ولا يصدق اتفاقا والكناية أصلها ما فيه خفاء ومنه كنيته أبا عبد الله كأنك أخفيت الاسم بالكنية تعظيما له ومنه الكن لإخفائه الأجسام وما يوضع فيه فالكناية هي اللفظ المستعمل في غير موضوعه لغة وفي الصحاح يقال كنيت وكنوت وكنية بضم الكاف وكسرها وضابط مشهور كلام الأصحاب أن اللفظ إن دل بالوضع اللغوي فهو صريح . وهذا هو الطلاق ؛ لأنه لإزالة مطلق القيد يقال لفظ مطلق ووجه طلق وحلال طلق وانطلقت بطنه وأطلق فلان من السجن قال صاحب الجواهر كيفما تصرفت هذه الصيغة نحو أنت طالق وأنت مطلقة ، وقد طلقتك أو الطلاق لازم أو قد أوقعت عليك الطلاق وأنا طالق منك والكناية ما ليس موضوعا له لغة لكن يحسن استعماله فيه مجازا لوجود العلاقة القريبة بينهما
قال في المدونة في مالك أو كالميتة أو الدم أو لحم الخنزير أو الفراق أو السراح أو اعتدي وهذه الألفاظ كلها من مجاز التشبيه فالخلية الفارغة والفراغ حقيقة في خلو جسم من جسم فشبه به خلو المرأة من عصمة النكاح والبرية من البراءة وهو مطلق السلب كيف كان المسلوب والبائن من البين وهو البعد بين الأجسام ويقال في المعاني بون لا بين شبه البعد من العصمة بالبعد بين الجسمين والبت القطع في جسم شبه به قطع العصمة ، وكذلك البتلة ومنه الكنايات نحو أنت خلية أو برية أو بائن أو بتة [ ص: 154 ] أو بتلة أو حبلك على غاربك أو أنت حرام رضي الله عنها لانقطاعها في الشرف عن النساء ، وقيل لانقطاعها عن الأزواج إلا فاطمة البتول عليا رضي الله عنه ومنه حبلك على غاربك ؛ لأن عادة الدابة في الرعي إذا أمسك صاحبها حبلها لا تتهنى في الرعي لتوهمها أنه يجرها به .
وإذا أراد تهنئتها بالرعي ألقى حبلها على كتفها وهو غاربها فتطمئن حينئذ فشبه به طلاق المرأة ؛ لأنها تبقى مخلاة لنفسها ، وكذلك البواقي وما ليس في علاقة قريبة لا يجوز استعماله مجازا ويسمى مجاز التعقيد إذا اعتمد فيه على العلاقة البعيدة اتفق الناس على منعه كقوله تزوجت بنت الأمير ويفسر ذلك برؤيته لوالد عاقد الأنكحة بالمدينة معتمدا على أن النكاح من لوازمه العقد لأنه مبيحه ؛ والعقد من لوازمه العاقد لأنه فاعله ؛ والعاقد من لوازمه أبوه لأنه ولده فهذا القسم وما ليس فيه علاقة البتة لا قريبة ولا بعيدة هو قال صاحب الجواهر هذا نحو قوله اسقني الماء فإن أراد به الطلاق فالمشهور لزومه خلافا ما ليس بصريح ولا كناية واختلف الأصحاب في تعليله فقيل هو الطلاق بمجرد النية لعدم صلاحية اللفظ ، وقيل ، بل باللفظ كأن المستعمل وضعه الآن للطلاق وهو بعيد ؛ لأن إنشاء الوضع لا نجده يخطر ببال الناس في العادة عند هذا الاستعمال ، وقيل لا يلزمه طلاق وهو مذهب للشافعي الشافعي وأحمد بن حنبل ؛ لأن الطلاق بالنية لا يلزم واللفظ لا يصلح وتحتاج هذه القاعدة إلى قاعدة أخرى وهي أن اللغات هل هي توقيفية أو اصطلاحية فعلى القول بالتوقيف وأن اللغات [ ص: 155 ] وضعها الله تعالى قال وأبي حنيفة المازري في شرح البرهان والغزالي في البسيط لا يجوز لأحد أن يضع لفظا لمعنى ألبتة ، بل ذلك موكول إلى الله تعالى فلا يجوز أن يضع لفظ السقي أو الأكل أو غيرهما للطلاق ولا يجوز أن يصدق ألفا ويعبر عنه بألفين للتجمل بين الناس كذا نص عليه الغزالي في مسألة الصداق في كتابه البسيط قال .
وإن فرعنا على أن اللغات اصطلاحية جاز جميع ذلك ولما كان مذهب المحققين عدم الجزم بالتوقيف والاصطلاح جوز أن مالك إما وضعا للطلاق وإما تعبيرا من غير وضع ولا يكون هذا التعبير حقيقة ولا مجازا ، وقد نص الأصوليون على أن اللفظ في استعماله قد يعرى عن الحقيقة والمجاز ومثلوه بالتعبير عن الأرض بالسماء وبالسماء عن الأرض ونحو ذلك فكذلك هاهنا أطلق المستعمل لفظ الأكل وأراد به الطلاق وغايته أن يقال أن هذا ليس كلاما عربيا ولا يلزم من كونه [ ص: 156 ] ليس عربيا أن لا يقع به الطلاق ألا ترى أنه لو يعبر بلفظ التسبيح أو أي لفظ كان عن الطلاق لم يكن كلاما عربيا ومع ذلك يقع به الطلاق فكذلك هاهنا إذا تحرر هذا ظهر أن اللفظ قد يكون صريحا ، وقد يكون كناية ، وقد يعرى عنهما إذا فقدت العلاقة فيه وهو غير موضوع للطلاق ، ثم قال أنت طالقا بالنصب أو الخفض قال في الكتاب كالخلية والبرية وجملة ما تقدم إلى قوله لحم الخنزير لقيام الوضع العرفي مقام الوضع اللغوي والنية إنما يحتاج إليها لتمييز المراد من اللفظ عن غير المراد في اللفظ المتردد أما ما هو صريح بوضع لغوي أو عرفي فينصرف بصراحته لما وضع له من غير احتياج إلى نية وما لم يغلب استعماله من الكنايات فهو مجاز على أصله والمجاز يفتقر إلى النية الناقلة عن الحقيقة إليه ؛ لأنها الأصل ولم ينسخها عرف . الكناية تنقسم إلى ما غلب استعماله في العرف في الطلاق فيلحقه بالصريح في استغنائه عن النية
واللفظ ينصرف إليها بصراحة ، ثم المنقول من الكنايات قد ينتقل لأصل الطلاق فقط فيصير في الوضع العرفي مثل أنت طالق في اللغة فيلزم بهذه الكناية طلقة واحدة رجعية ، وقد ينتقل لأصل الطلاق مع البينونة من غير عدد فيلزم به طلقة بائنة ؛ لأنها مسماه العرفي ، وقد ينتقل للطلاق والبينونة مع وصف العدد الثلاث ويصير النطق بذلك اللفظ عرفا كالنطق بقوله أنت طالق ثلاثا لغة ، ثم إنه قد يستعمل في غير الثلاث غالبا وفي الثلاث نادرا فمن الناس من يقصد الاحتياط فيحمل على الثلاث ومن الناس من يحمله على الغالب فيلزم به طلقة واحدة فحيث اختلف العلماء في هذه الصيغ فلاختلافهم في الضوابط هل وجدت أم لا وإلا فكل من سلم ضابطا سلم حكمه ويكون المذهب الحق من صادف الضابط في نفس الأمر والضعيف الفقه من توهم وجوده أو عدمه ، وليس كذلك وعلى الفقيه استيفاء النظر في ذلك ومن ذلك اختلافهم في مسألة الحرام فمن قائل لم يحصل فيها نقل ألبتة فهي كذب فلا يلزم بها شيء إلا بالنية ومن قائل يقول حصل فيها النقل ولكن الأصل الطلاق فيلزم بها طلقة واحدة رجعية ومن قائل يقول حصل فيها النقل للطلاق الثلاث وعلى هذا المنوال تتخرج جميع الصيغ هذا تلخيص ما عليه الفقهاء
( تنبيه ) الطلاق [ ص: 157 ] لإزالة مطلق القيد كما تقدم ومطلق القيد أعم من قيد النكاح والقاعدة أن الدال على إزالة الأعم دال على إزالة الأخص بالالتزام لا باللفظ ، فليس الطلاق موضوعا لإزالة خصوص قيد النكاح كما يفهم من كلام الفقهاء .
بل التحقيق أن يقال إن الطلاق موضوع لإزالة مطلق القيد يعني أي قيد كان ؛ لأنه موضوع لإزالة كل قيد حتى يندرج فيه قيد النكاح ، وإذا كان موضوعا لأي قيد كان من غير عموم فيصدق أنها طالق باعتبار قيد الحديد وإن بقيت في العصمة لأن طالق اسم فاعل واسم الفاعل يكفي فيه فرد واحد من المسمى الذي اشتق منه فلا يدل أنت طالق على إزالة العصمة مطابقة ولا التزاما ، بل لا إشعار له به من جهة اللغة ألبتة ووزان الطلاق الخروج ؛ لأن كليهما انتقال من إحاطة فكما أن الخروج يصدق عليها بأي فرد كان فيصدق أنها خارجة باعتبار حيز معين وإن بقيت في غيره كذلك يصدق عليها أنها طالق باعتبار قيد معين .
وإن بقيت في غيره نعم لو كان طالق مفيد العموم لحصل مقصود الأصحاب أو يفيد إزالة القيد المشترك بين جميع القيود حتى يلزم منه انتفاء كل قيد حصل أيضا ، ولو كان الأمر كذلك لما صدق على المنطلقة من قيد الحديد أو من طلق الولد أنها طالق ؛ لأن العموم لم يحصل وإزالة المشترك الذي يستلزم نفي كل قيد لم يحصل لكنا نجد أهل اللغة وأهل العرف يستعملونه باعتبار قيد مخصوص وإن بقيت جميع القيود فيقال لمن طلقت من ولد طالق ومن قيد الحديد طالق ؛ لأن الأصل عدم المجاز ؛ ولأن عند سماع طالق لا نفهم انتفاء كل قيد ألبتة ، بل قيدا مخصوصا لا لغة ولا عرفا ولهذا المدرك لم يعتبر ابن القصار خصوص لفظ الطلاق ، بل أعرض [ ص: 158 ] عن الوضع اللغوي واعتبر ما وضع في العرف لإزالة العصمة وإليه جنح رضي الله عنه لكن يرد على الشافعي رضي الله عنه أنه لا يلزم من ورود شيء في كتاب الله تعالى أن يصير موضوعا لذلك المعنى في الشرع أو العرف فإن الكتاب العزيز يرد بالكنايات القريبة والبعيدة كما يرد بالحقائق والمجاز كثير في كتاب الله تعالى جدا ويعتمد في حكمه على القرائن والتصريح بالمراد وحينئذ لا يليق أن يجعل ما ورد في كتاب الله تعالى كيف كان موضوعا لذلك المعنى الذي ورد فيه ولا يحسن الاستدلال بمجرد الورود على الصراحة والوضع نعم يحسن الاستدلال بالورود على المشروعية . الشافعي
أما الوضع فلا فإذا فرعنا على أن المدرك هو الاشتهار العرفي فينبغي أن لا يكون الانطلاق صريحا .
وإن كان فيه الطاء واللام والقاف وفيه [ ص: 159 ] معنى إزالة القيد ؛ لأن المشتهر هو الطلاق دون الانطلاق ، وكذلك ، وقد خالفنا أطلقتك وانطلقت منك وانطلقي مني وأنت منطلقة أبو حنيفة رضي الله عنهما في وأحمد بن حنبل ؛ لأنه ليس محبوسا بالنكاح ، بل هي المحبوسة وقياسا على قوله أنا طالق فلو كان محلا للطلاق لوقع كالمرأة ؛ ولأن الرجل لا يوصف به فلا يقال زيد مطلق ونقل أنا طالق منك الباجي في المنتقى عن أبي سعيد منا ذلك ووافق المشهور الشافعي
( والجواب عن الأول ) أنه محبوس عن عمتها وأختها والزيادة على الأربع والنفقة وغيرها مما هو لازم فيخرج عن لزومه
( وعن الثاني ) أن وصفه بطالق جائز أن يكون عن امرأة فلم يعينها اللفظ ، وإذا قال أنت طالق تعين أن يكون من عصمته لتعذر تعدد الأزواج دون الزوجات
( وعن الثالث ) أن مطلق اسم مفعول يقتضي أن يكون المقتضي لطلاقه غيره وهو متعذر .
وقال الحنفية لا يكون طلاقا إلا بالنية ؛ لأنه ليس مختصا بالنساء وهو متجه ، وقال بعض الشافعية أنت مطلقة بسكون الطاء وتخفيف اللام كناية ؛ لأن التعبير بالمصدر عن اسم الفاعل مجاز فيفتقر إلى النية أنت الطلاق
( وجوابه ) أنه مجاز تعين بقرينة تعذر أنها عين الطلاق ، وإذا تعين لاسم الفاعل استغنى بذلك عن النية ؛ لأن التعيين مانع [ ص: 160 ] من التردد ، والنية إنما تصلح حالة التردد
( تنبيه ) ينبغي أن يعلم أنه ليس في أصل اللغة ما يقتضي طلاق المرأة ألبتة ولا لفظة واحدة ، وهذا شيء لا يكاد يخطر بالبال وبيانه أنه هذا أعظم ما يتوهم أنه صريح لغة ، وليس كذلك ، بل هذا لا يوجب طلاقا ألبتة بسبب أن اللغة إنما تقتضي أن هذه الصيغة وضعتها إذا قال أنت طالق ثلاثا العرب للإخبار ، وهذا هو أصل الوضع ومقتضى ذلك أن يكون قوله أنت طالق ثلاثا كذبا لا عبرة به والطلاق لا يلزم بالخبر الكذب إجماعا ومن هاهنا افترق الناس فريقين
( أحدهما ) الحنفية قالت هي باقية إخبارات على حالها وإنما الشرع يقدر وقوع مخبرها قبل النطق بها بالزمن الفرد لضرورة تصديقه ، وإذا صار صادقا لزمه ما نطق به من الطلاق ، وكذلك قالوا في صيغ العتق وجميع صيغ العقود من بعت واشتريت ونحو ذلك ( والفريق الآخر ) وهو المالكية والشافعية يقولون هذه الصيغ انتقلت في العرف عن الخبر لإنشاء الطلاق ويلزم الطلاق بالإنشاء ومتى قصد الخبر وعدل عن الإنشاء الذي انتقل إليه العرف لا يلزمه طلاق فهذه هي المذاهب الواقعة في هذه الصيغ كلها ويظهر من ذلك أنه ليس في اللغة لفظة واحدة تقتضي وقوع الطلاق من حيث هي لغوية ، بل لا بد من التقدير كما قاله الحنفية أو النقل كما قاله غيرهم .
وإذا تقرر هذا فيلزم على رأي الحنفية أن يكون لفظ الطلاق صريحا مستغنيا عن النية ؛ لأنه قد تقدم أنه لا يدل لغة على الإخبار عن إزالة قيد النكاح بخصوصه ، بل على إزالة قيد كيف كان قيد النكاح أو قيد الحديد أو غيرهما فلا ينصرف لقيد النكاح إلا بالنية ؛ لأنه ليس إخبارا عنه بخصوصه فصار كناية وصارت الألفاظ بجملتها كناية [ ص: 161 ]
فإن نوى بها الطلاق الذي هو إزالة قيد النكاح فحينئذ يلزم ما ذكروه من التصديق وإلا فلا يلزم تقدير صدقه لأنه لم يقصد الإخبار عن زوال العصمة ويلزم على رأينا القائلين بالإنشاء أن يكون ضابط الصريح ما نقل لإنشاء إزالة القيد وصار مستغنيا عن النية وما لم يصر بالنقل كذلك ويمكن استعماله في إزالة العصمة مجازا لعلاقة بينهما فهو كناية وما لا علاقة فيه كالأكل والشرب والتسبيح ونحوها يجري على الخلاف المتقدم أو يكون لا صريحا ولا كناية ، وهذا هو الذي يتجه ويكون لفظ الحرام والخلية والبرية ونحوها مما ادعي فيه النقل صريحا فلا يقال فيه إنه كناية ألحقت بالصريح ؛ لأنه لا صريح إلا بالنقل حينئذ فأي لفظ نقل كان هو الصريح من غير امتياز لفظ عن لفظ في ذلك لاستواء الجميع في عدم إفادة زوال العصمة لغة .
وفي إفادة زوالها بالنقل فلا مزية لبعضها على بعض إذا حصل فيها النقل ويلزم على هذا أيضا بحث آخر وهو أن النقل إنما هو من قبل العرف فإذا تحول العرف إلى الضد فصار المشتهر خفيا والخفي مشتهرا أن يكون ما قضينا بأنه صريح يصير كناية وما قضينا بأنه كناية يصير صريحا بحسب [ ص: 162 ] العرف الطارئ .
وكذلك إذا لم ينتقل العرف للضد ، بل بطل فقط يلزم أن لا يصير شيء من هذه الألفاظ صريحا ، بل تحتاج جميع الألفاظ في لزوم الطلاق بها إلى النية ويلزم أمر ثالث وهو أن فإن كان من أهل بلد آخر ليس فيه ذلك العرف أفتاه بحكم الله تعالى باعتبار حال عرف بلده من صريح أو كناية على الضابط المتقدم فإن العوائد لا يجب الاشتراك فيها بين البلاد خصوصا البعيدة الأقطار ويكون المفتي في كل زمان يتباعد عما قبله يتفقد العرف هل هو باق أم لا فإن وجده باقيا أفتى به وإلا توقف عن الفتيا ، وهذا هو القاعدة في جميع الأحكام المبنية على العوائد كالنقود والسكك في المعاملات والمنافع في الإجارات والأيمان والوصايا والنذور في الإطلاقات فتأمل ذلك فقد غفل عنه كثير من الفقهاء ووجدوا الأئمة الأول قد أفتوا بفتاوى بناء على عوائد لهم وسطروها في كتبهم بناء على عوائدهم ، ثم المتأخرون وجدوا تلك الفتاوى فأفتوا بها . المفتي لا يحل له أن يفتي أحدا بالطلاق حتى يعلم أنه من أهل بلد ذلك العرف الذي رتبت الفتيا عليه
وقد زالت تلك العوائد فكانوا مخطئين خارقين للإجماع فإن الفتيا بالحكم المبني على مدرك بعد زوال مدركه خلاف الإجماع ومن ذلك لفظ الحرام والخلية والبرية ونحوها مما هو مسطور أنه يلزم به الطلاق الثلاث بناء على عادة كانت في زمانه فأكثر المالكية اليوم يفتي بلزوم الطلاق الثلاث بناء على المنقول في الكتب عن لمالك وتلك العوائد قد زالت فلا نجد اليوم أحدا يطلق امرأته بالخلية ولا بالبرية ولا بحبلك على غاربك ولا بوهبتك لأهلك ، ولو وجدناه المرة بعد المرة مرات كثيرة لم يكن ذلك نقلا يوجب لزوم الطلاق الثلاث من غير نية ألا ترى أن لفظ الأسد كثير الاستعمال في الرجل الشجاع ولا يقول أحد إنه منقول إليه ، وكذلك لفظ الشمس والبدر في ذوات الجمال والبحر والغيث والندى ونحوها في الكرام الباذلين للمال ومع ذلك لم تصر هذه الألفاظ منقولة لهذه المعاني ، بل ضابط المنقول أن يصير اللفظ يفهم منه المعنى بغير قرينة وهذه الألفاظ لا تفهم منها هذه المعاني إلا بالقرينة فلذلك لم تصر منقولة فتأمل ذلك ويظهر لك ما عليه هؤلاء المتأخرون من الفتاوى الفاسدة في هذه الألفاظ ويظهر لك بهذه المباحث الفرق بين قاعدة الصريح وقاعدة ما ليس بصريح على [ ص: 163 ] القواعد الصحيحة . مالك