( الفرق الخامس والستون والمائة بين قاعدة التصرف في المعدوم الذي يمكن أن يتقرر في الذمة وبين قاعدة التصرف في المعدوم الذي لا يمكن أن يتقرر في الذمة )
اعلم أن مالكا رضي الله عنهما اتفقا على جواز وأبا حنيفة التعليق في الطلاق والعتاق قبل النكاح ، وكذلك العتق قبل الملك فيقول للأجنبية إن تزوجتك فأنت طالق فيلزمه الطلاق والعتاق إذا تزوج واشترى ، وقال وللعبد إن اشتريتك فأنت حر رضي الله عنه لا يلزمه شيء من ذلك ووافقنا على جواز الشافعي فيقول إن ملكت دينارا فهو صدقة ، وكذلك جميع ما يمكن أن يتصدق به المسلم في الذمة في باب المعاملات فتمسك الأصحاب بوجوه التصرف بالنذر قبل الملك
( أحدها ) القياس على النذر في غير المملوك بجامع الالتزام بالمعدوم
( وثانيها ) قوله تعالى { أوفوا بالعقود } والطلاق والعتاق عقدان عقدهما على نفسه فيجب الوفاء بهما
( وثالثها ) قوله عليه الصلاة والسلام { } ، وهذان شرطان فوجب الوقوف معهما [ ص: 170 ] وأجاب الشافعية المؤمنون عند شروطهم
( عن الأول ) بأن النقدين والعروض يمكن أن يثبت في الذمم فوقع الالتزام بناء على ما في الذمة والطلاق والعتاق لا يثبتان في الذمم والتصرف يعتمد الموجود المعين أو ما في الذمة ، وإذا انتفيا معا بطل التصرف ألا ترى أن البيع إذا لم يكن على معين ولا في الذمة فإنه يبطل كذلك هاهنا
( وعن الثاني ) أن قوله تعالى { أوفوا بالعقود } أمر بالوفاء بالعقود والأوامر لا تتعلق إلا بمعدوم مستقبل والعقد قد وقع وصار ماضيا فلا يصح أن يتعلق إلا بالوفاء به فيتعين أن الأمر متعلق بالوفاء بمقتضاه ويكون التقدير أوفوا بمقتضيات العقود ونحن نقول بموجبه ويوفى بمقتضاه ولكن النزاع في مقتضاه ما هو هل لزوم الطلاق أم لا فلا يحصل المقصود من الآية ، وهذا هو الجواب عن الحديث فإن الكون عند الشروط إنما هو الوفاء بمقتضاها وكون الطلاق من مقتضاها هو محل النزاع وللمالكية أن يجيبوا عن هذين الجوابين بأن مقتضى العقد ومقتضى الشرط هو ما دل عليه لغة ؛ لأنه مقتضاه إجماعا .
وأما المقتضى الشرعي فهو صورة النزاع ونحن إنما نتمسك بالمقتضى اللغوي ولا شك أن المقتضى اللغوي في العقد والشرط هو لزوم الطلاق فوجب أن يكون متعلق الأمر في الآية والحديث وهو المطلوب ، ولو حمل على المقتضى الشرعي لكان التقدير أوفوا بما يجب عليكم شرعا الوفاء به ونحن لا نعلم الوجوب إلا من هذا الأمر فيلزم الدور لتوقف كل واحد منهما على الآخر أما إذا حمل على المقتضى اللغوي [ ص: 171 ] لا يلزم الدور لعدم توقف اللغة على الشرائع وهاهنا قاعدة يشكل مذهب مالك باعتبارها وهو أن كل سبب شرعه الله تعالى لحكمة لا يشرعه عند عدم تلك الحكمة كما شرع التعزيرات والحدود للزجر ولم يشرعها في حق المجانين وإن تقدمت الجناية منهم حالة التكليف لعدم شعورهم بمقادير انخراق الحرمة والذمة والمهانة في حالة الغفلة فلا يحصل الزجر وشرع البيع للاختصاص بالمنافع في الغرضين ولم يشرعه فيما لا ينتفع به ولا فيما كثر غرره أو جهالته لعدم انضباط الانتفاع مع الغرر والجهالة المخلين بالأرباح وحصول الأعيان وشرع اللعان لنفي النسب ولم يشرعه للمجبوب والخصي لانتفاء النسب بغير لعان وذلك كثير في الشريعة وضابطه أن كل سبب لا يحصل مقصوده لا يشرع والنكاح سبب شرع للتناسل والمكارمة والمودة فمن قال بشرعيته في صورة التعليق قبل الملك فقد التزم شرعيته مع انتفاء حكمته فكان يلزم أن لا يصح عليها العقد ألبتة لكن العقد صحيح إجماعا فدل ذلك على عدم لزوم الطلاق تحصيلا لحكمة العقد . وأبي حنيفة
وأما وجوب نصف الصداق وتبعيض الطلاق وغيرهما مما يتوقف على هذا العقد فأمور تابعة لمقصود العقد لا أنها مقصود العقد فلا يشرع العقد لأجلها فحيث أجمعنا على شرعيته دل ذلك على بقاء حكمته وهو بقاء النكاح المشتمل على مقاصده ، وهذا موضع مشكل على أصحابنا فتأمله ، وقد ظهر لك أيضا بما تقدم من البحث الفرق بين ما يترتب في الذمم [ ص: 172 ] وبين ما لا يترتب ( وأما ) تهويل الشافعية بقولهم الطلاق حل والنكاح عقد والحل لا يكون قبل العقد وبما يروونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما خرجه الترمذي { آدم ولا طلاق فيما لا يملك ولا عتاق فيما لا يملك } ( فالجواب ) أن الطلاق لم نقل به في غير عقد ؛ لأنا لم نقل بلزوم الطلاق إلا بعد حصول العقد لا قبله فما قلنا بالحل إلا بعد العقد وهو الجواب عن الحديث فإن طلاق ابن لا نذر فيما لا يملك ابن آدم وعتقه إنما وقعا فيما ملكه وإنما تقدم التعليق وربط الطلاق والعتاق بالملك لا نفس الطلاق والعتاق .