( الفرق الثامن والستون والمائة بين قاعدة التمليك وقاعدة التخيير )
اعلم أن موضوع التمليك عند مالك أصل الطلاق من غير إشعار بالبينونة ولا بالعدد فلها أن تقضي بأي ذلك شاءت وموضوع التخيير عندنا الثلاث قبل البناء وبعده ومقصوده البينونة فلذلك تقبل نية الزوج فيما دون الثلاث قبل البناء لحصول المقصود وهو البينونة بالواحدة حينئذ دون ما بعد البناء ؛ لأنه صريح في البينونة لا يقبل المجاز كالثلاث إذا نطق بها قال القاضي عياض في كتاب التنبيهات في التخيير سبعة أقوال المشهور هو الثلاث نوتها المرأة أم لا فإن قضت بدونها فهل يسقط خيارها خلاف والثلاث .
وإن نوت دونها قال عبد الملك وواحدة بائنة وللزوج المناكرة في الثلاث وطلقة واحدة بائنة عند ابن الجهم وعمر وعلي رضي الله عنهما وثلاث إن قالت اخترت نفسي وواحدة بائنة إن اختارت زوجها أو ردت الخيار عليه مروي عن مالك وطلقة رجعية عند أبي يوسف وأسقط أبو حنيفة حكمه مطلقا واتفق الشافعي وأبو حنيفة وابن حنبل على أنه كناية لا يلزم به شيء [ ص: 176 ] إلا بالنية ؛ لأن لفظ التخيير يحتمل التخيير في الطلاق وغيره فإن أراد الطلاق فيحتمل الوحدة والكثرة والأصل بقاء العصمة حتى ينوي ، وقد اعتمد الأصحاب على مدارك
( أحدها ) قوله تعالى { يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها } الآية قالوا هذه الآية تدل على البيونة بالثلاث ، وقد أجاب اللخمي من أصحابنا عنها بأربعة أوجه
( أحدها ) أنه عليه السلام كان المطلق لا النساء لقوله تعالى { وأسرحكن سراحا جميلا }
وثانيها سلمنا أن الأزواج كن اللائي طلقن لكن السراح لا يوجب إلا واحدة كما لو قال سرحتك
( وثالثها ) سلمنا أنه الثلاث لكنه مختص به عليه السلام ؛ لأن تحريم الطلاق الثلاث معلل بالندم وهو عليه السلام أملك لنفسه منا
( ورابعها ) أن التخيير إنما كان بين الحياة الدنيا والدار الآخرة
( وثانيها ) أن إحدى نسائه عليه السلام اختارت نفسها فكانت ألبتة فكان ذلك أصلا في الخيار قال اللخمي وهو غير صحيح والذي في الصحيحين أن عائشة رضي الله عنها قالت إني أريد الله ورسوله والدار الآخرة ، ثم فعل أزواجه مثل ذلك
( وثالثها ) أن المفهوم من هذا اللفظ عادة إنما هو التخيير في الكون في العصمة أو مفارقتها هذا هو السابق للفهم من قول القائل لزوجته خيرتك والأئمة الثلاثة ينازعون في أن هذا هو المفهوم عادة والصحيح الذي يظهر لي أن قول الأئمة هو مقتضى اللفظ لغة لا مرية في ذلك وإن مالكا رحمه الله أفتى بالثلاث والبيونة كما تقدم بناء على عادة كانت في زمانه أوجبت نقل اللفظ عن مسماه اللغوي [ ص: 177 ] إلى هذا المفهوم فصار صريحا فيه ، وهذا هو الذي يتجه وهو سر الفرق بين قاعدة التخيير والتمليك غير أنه يلزم عليه أن هذا الحكم قد بطل وتغيرت الفتيا ويجب الرجوع إلى اللغة كما قاله الأئمة وتصير كناية محضة بسبب أن العرف قد تغير حتى لم يصر أحد يستعمل هذا اللفظ إلا في غاية الندرة فضلا عن كثرة الاستعمال التي تصيره منقولا والقاعدة أن اللفظ متى كان الحكم فيه مضافا لنقل عادي بطل ذلك الحكم عند بطلان تلك العادة وتغير إلى حكم آخر إن شهدت له عادة أخرى فهذا هو الفقه المتجه .


