( الفرق الحادي والسبعون والمائة بين قاعدة ما يجزئ فيه فعل غير المكلف عنه وبين قاعدة ما لا يجزئ فيه فعل الغير عنه )
اعلم أن وذلك [ ص: 186 ] كدفع المغصوب للمغصوب منه وإن لم يشعر الغاصب فإن ذلك يسد المسد ويزيل التكليف ودفع النفقات للزوجات والأقارب والدواب فإن دفعها غير من وجب عليه لمن وجبت له أجزأت وإن لم يشعر المأمور بها من زوج أو قربت ، وكذلك دفع اللقطة لمستحقها وإن لم يشعر ملتقطها ، وهذا النحو ( وقسم ) اتفق الناس على عدم إجزاء فعل غير المأمور به فيه وهو الإيمان والتوحيد والإجلال والتعظيم لله سبحانه وتعالى . الأفعال المأمور بها ثلاثة أقسام ( قسم ) اتفق الناس على صحة فعل غير المأمور به عن المأمور
وكذلك حكي في الصلاة الإجماع ونقل الخلاف في مذهب في الصلاة عن الشافعي ويقال إنه مسبوق بالإجماع ( وقسم ) مختلف فيه هل يجزئ فعل غير المأمور عن المأمور به ويسد المسد أم لا وفيه أربع مسائل الشيخ أبي إسحاق
( المسألة الأولى ) فإن كان غير الإمام فمقتضى قول أصحابنا في الأضحية يذبحها غير ربها بغير علمه وإذنه إن كان الفاعل لذلك صديقه ومن شأنه أن يفعل ذلك بغير إذنه ؛ لأنه [ ص: 187 ] بمنزلة نفسه عنده لتمكن الصداقة بينهما أجزأته الأضحية إن كان مخرج الزكاة من هذا القبيل فمقتضى قولهم في الأضحية أن الزكاة تجزئه ؛ لأن كليهما عبادة مأمور بها مفتقرة للنية وإن كان ليس من هذا القبيل لا تجزئ عن ربها لافتقارها للنية على الصحيح من المذهب لأجل شائبة العبادة وعلى القول بعدم اشتراط النية فيها ينبغي أن يجزئ فعل الغير فيها مطلقا كالدين الوديعة ونحوهما مما تقدم في القسم المجمع عليه ، وهذا القول أعني عدم اشتراط النية قاله بعض أصحابنا وقاسها على الديون واستدل بأخذ الإمام لها كرها على عدم اشتراط النية وباشتراطها قال الزكاة إن أخرجها أحد بغير علم من هي عليه أو غير إذنه في ذلك مالك والشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهما لما فيها من شائبة التعبد من جهة مقاديرها في نصبها والواجب فيها وغير ذلك وإن أخذها الإمام كرها وهو عدل أجزأت عند وأحمد بن حنبل ، وعند مالك رحمهما الله تعالى اعتمادا على فعل الشافعي رضي الله عنه ولظاهر القرآن وهو قوله تعالى { الصديق خذ من أموالهم صدقة تطهرهم } وظاهر الأمر الوجوب الذي أقل مراتبه الإذن والإجزاء ؛ لأن الإمام وكيل الفقراء فله أخذ حقهم قهرا كسائر الحقوق .
وقال لا يأخذها الإمام كرها لكن يلجئه إلى دفعها بالحبس وغيره لافتقارها للنية وإلا كره مع النية متنافيان أبو حنيفة
( المسألة الثانية ) منعه الحج عن الغير وجوزه مالك رضي الله عنهما بناء على شائبة المال والعبادات المالية يدخلها النيابات الشافعي يلاحظ أن المال فيه عارض بدليل [ ص: 188 ] المكي يحج بغير مال ، بل عروض المال في الحج كعروض المال في صلاة الجمعة لمن داره بعيدة عن المسجد فيكتري دابة يصل عليها للمسجد ولما لم تجز صلاة الجمعة عن الغير فكذلك الحج ومالك الفرق بأن عروض المال في الحج أكثر ولما ورد في الأحاديث من الحج عن الصبيان والمرضى يحرم عنهم غيرهم ويفعل أفعال الحج والعبادات أمر متبع وللشافعي
( المسألة الثالثة ) جوزه الصوم عن الميت إذا فرط فيه وروى الشافعية ذلك أيضا في مذهبهم لقوله عليه الصلاة والسلام { أحمد بن حنبل } ولم يجوزه من لم يصم صام عنه وليه رحمه الله تعالى لقوله تعالى { مالك وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } وقياسا على الصلاة ومن هذا الباب الحج عن الميت أيضا
( المسألة الرابعة ) قال عتق الإنسان عن غيره في المدونة من مالك فالولاء للمعتق عنه وعليه الجعل ولا يجزئه كالمشتري بشرط العتق قال أعتق عبده عن ظهار غيره على جعل جعله له ابن القصار ، وإذا لم يكن في الجعل وضيعة عن الثمن جاز ؛ لأنه إذا جاز هبته فبيعه أولى .
وقال صاحب الجواهر في العتق عن الغير ثلاثة أقوال الإجزاء وهو المشهور قاله ابن القاسم عدم الإجزاء ، وقال ولأشهب عبد الملك إن أذن في العتق أجزأ عنه وإلا فلا ، وقاله رضي الله عنه قال الشافعي اللخمي يجزئ العتق عن ظهار الغير عند ابن القاسم وإن كان أبا للمعتق وفرق بعض الأصحاب بين عتق الإنسان عن غيره وبين دفع الزكاة عنه فلا يجزئ في الثاني ؛ لأنها ليست في الذمة والكفارة في الذمة قال اللخمي والحق [ ص: 189 ] الإجزاء فيهما ؛ لأنهما كالدين وهذه المسألة دائرة بين قواعد
( القاعدة الأولى ) قاعدة التقادير الشرعية وهي إعطاء الموجود حكم المعدوم والمعدوم حكم الموجود فالأول كالغرر والجهالة في العقود إذا قلا أو تعذر الاحتراز عنهما نحو أساس الدار وقطن الجبة ورداءة بواطن الفواكه ودم البراغيث ونجاسة ثوب المرضع والوارث الكافر أو العبد يقدر عدمه فلا يحجب والثاني كتقدير الملك في الدية مقدما قبل زهوق الروح في المقتول خطأ حتى يصح فيها الإرث فإنها لا تجب إلا بالزهوق وحينئذ لا يقبل المحل الملك والميراث فرع ملك الموروث فيقدر الشارع الملك متقدما قبل الزهوق بالزمن الفرد حتى يصح الإرث وكتقدير النية في أول العبادات ممتدة إلى آخرها وكتقدير الإيمان في حق النائم الغافل حتى تنعصم دماؤهم وأموالهم وتقدير الكفر في الكافر الغافل حتى تصح إباحة الدم والمال والذرية وقاعدة التقادير قد تقدمت في خطاب الوضع
( القاعدة الثانية ) أن الهبة إذا لم يتصل بها قبض بطلت
( القاعدة الثالثة ) الكفارات عبادة فيشترط فيها النية وهو المشهور عندنا ، وقيل لا تجب النية
( القاعدة الرابعة ) كل من عمل لغيره من مال أو غيره بأمره أو بغير أمره نفذ ذلك فإن كان متبرعا لم يرجع به أو غير متبرع وهو منفعة فله أجرة مثله أو مال فله أخذه ممن دفعه عنه بشرط أن يكون المعمول له لا بد له من عمل ذلك بالاستئجار أو إنفاق ذلك المال أما إن كان شأنه فعله إياه بغير استئجار لنفسه أو لغلامه وتحصل [ ص: 190 ] تلك المصلحة بغير مال فلا غرم عليه والقول قول العامل في عدم التبرع وهذه قاعدة مذهب نص عليها مالك في النوادر وصاحب الجواهر في كتاب الإجارات ولا تختص هذه القاعدة بما يجب على المدفوع عنه كالدين ، بل يندرج فيها غسل الثوب وخياطته ورمي التراب من الدار ونحو ذلك على الشروط المتقدمة ويجعل ابن أبي زيد لسان الحال قائما مقام لسان المقال فكأنه أذن له في ذلك بلسان مقاله وخالفنا مالك في هذه القاعدة وجعل الأصل في فعل الغير التبرع . الشافعي
وإذا لم يأذن له المدفوع عنه بلسان المقال لا يرجع عليه بشيء فمن لاحظ هذه القاعدة وهو مالك وابن القاسم فيقول المعتق قام عن المعتق عنه بواجب من شأنه أن يفعله ويقدر انتقال ملكه عنه للمعتق عنه قبل صدور العتق بالزمن الفرد حتى يثبت الولاء وتبرأ ذمته من الكفارة ويشكل عليه بقاعدة النية فإنه يشترطها وهي متعذرة مع الغفلة ونجيب بالقياس على العتق عن الميت ويرد عليه الفرق بأن الحي متمكن من العتق عن نفسه بخلاف الميت ، وقد تعذر عليه باب التقرب فناسب أن يوسع الشرع له في ذلك وله القياس على أخذ الزكاة كرها مع اشتراط النية فيها ويفرق أيضا بأنها حالة ضرورة لأجل امتناع المالك وهاهنا المعتق عنه غير ممتنع وبأن مصلحة الزكاة عامة فيوسع فيها لعموم الضرورة بخلاف الكفارات فإنها قليلة وهي خاصة فلا يخالف فيها قاعدة النية يعتبر قاعدة النية وهي منفية حالة عدم الإذن والشافعي يقول الإذن من [ ص: 191 ] باب الكلام والإباحة والنية من باب المقاصد والإرادة فلا يقوم أحدهما مقام الآخر ولا يستقيم قصد الإنسان لعتق ملك غيره . وأشهب
وقال رضي الله عنه إن دفع له جعلا أجزأ وإلا فلا للقاعدة الثانية فتخرج بالجعل عن الهبة فلا تحتاج إلى قصد فهذه القواعد هي سر هذه المسألة وهي مشكلة وأشكل منها ما نص عليه أبو حنيفة عبد الحق أنه يجوز ، وهذا أشكل من الواجب ؛ لأن الواجب فيه دلالة الحال دون المقال وهاهنا لا دلالة حال ولا يقال فلا يتجه ويكون أبعد من العتق عن الواجب . العتق عن الغير تطوعا بغير إذنه
ومن يشترط الإذن يقول الإذن تضمن الوكالة في نقل ملكه للآذن وعتقه عنه بعد انتقال الملك ويكون المأذون له وكيلا في الأمرين ومتوليا لطرفي العقد والموجب لهذه التقادير كلها أنه لا يصح هذا التصرف إلا بها وما تعذر تصحيح الكلام إلا به وجب المصير إليه صونا للكلام عن الإلغاء فهذا تحرير هذا الفرق وتحرير مسائله .