( ) الفرق التاسع والثمانون والمائة بين قاعدة ما يتعين من الأشياء وقاعدة ما لا يتعين في البيع ونحوه
اعلم أن العقود ثلاثة أقسام
( القسم الأول ) يرد على الذمم ، فيكون متعلقه الأجناس الكلية دون [ ص: 254 ] أشخاصها فيحصل الوفاء بمقتضاها بأي فرد كان من ذلك الجنس فإن دفع فردا منه فظهر مخالفته للعقد رجع بفرد غيره وتبينا أن المعقود عليه باق في الذمة إلى الآن حتى يقبض من ذلك الجنس فرد مطابق للعقد هذا متفق عليه
( القسم الثاني ) مبيع مشخص الجنس فهذا معين وخاصته أنه إذا فات ذلك المشخص قبل القبض انفسخ العقد اتفاقا واستثني من [ ص: 255 ] المشخصات صورتان
( الصورة الأولى ) ثلاثة أقوال النقود إذا شخصت وتعينت للجنس هل تتعين أم لا
( أحدهما ) تتعين بالشخص على قاعدة المشخصات ، وقاله الشافعي وابن حنبل
( وثانيها ) أنها لا تتعين وهو مشهور مذهب ، وقاله مالك رضي الله عنهم أجمعين أبو حنيفة
( وثالثها ) تتعين إن شاء بائعها ؛ لأنه أملك بها ولا مشيئة لقابضها فإن اختص النقد بصفة نحو الحلي أو رواج السكة ونحوهما تعينت اتفاقا احتج رضي الله عنه بأمور الشافعي
( أحدها ) أن غرضه متعلق بها عند الفلس ، والنقد المعين آكد من الذي في الذمة لتشخصه فإذا تعين النقدان في الذمة وجب أن يتعينا إذا شخصا بطريق الأولى
( وثانيها ) أن الدين يتعين فلا يجوز نقله إلى ذمة أخرى فوجب أن يتعين النقدان بالقياس على الدين
( وثالثها ) أن ذوات الأمثال [ ص: 256 ] كأرطال الزيت من خابية واحدة وأقفزة القمح من صبرة واحدة لا يتعلق بخصوصياتها غرض ، بل كل قفيز منها يسد مسد الآخر عند العقلاء ومع ذلك فلو لم يكن له إبداله بغيره ، بل يتعين بالتعيين مع عدم الغرض فكذلك النقدان باعه قفيزا من أقفزة كيلت من صبرة واحدة أو رطلا من أرطال زيت من جرة واحدة وجعله مورد العقد وعينه
( والجواب عن الأول ) أن الفلس نادر والنادر ملحق بالغالب في الشرع
( وعن الثاني ) أن الدين إنما تعين ولم يجز أن ينقله إلى ذمة أخرى ؛ لأن الذمم تختلف باللدد وقرب الإعسار فلذلك تعين الدين ، ولو حصل في النقدين اختلاف لتعينت أيضا اتفاقا وإنما الكلام عند عدم الاختلاف
( وعن الثالث ) أن السلع وإن كانت ذوات أمثال فإنها مقاصد والنقدان وسيلتان لتحصيل المثمنات ، والمقاصد [ ص: 257 ] أشرف من الوسائل إجماعا فلشرفها اعتبر تشخيصها وعين النقد وإن قام غيره مقامه فأثر بشرفه في تعيين تشخيصه بخلاف الوسائل ضعيفة فلم تؤثر في تعيين تشخيصها إذا قام غيرها مقامها ولم يختص بمعنى فيها فظهر الفرق بينهما وفي الفرق ثلاث مسائل ( المسألة الأولى )
مقتضى مذهب مالك رضي الله عنهما أن خصوص النقدين لا يملكان ألبتة بخلاف خصوصيات المثليات فإذا غصب غاصب من شخص دينارا لا يتمكن من طلب خصوصه ، بل يستحق الزنة والجنس دون الخصوص فالغاصب أن يعطيه دينارا غيره وإن كره ربه إذا كان الدينار والذي يعطيه الغاصب حلالا مساويا للسكة والمقاصد في الدينار المغصوب ولذلك إذا وأبي حنيفة يمتنع من دفعه ويعطيه غيره ؛ ولأن الخصوص في أفراد النقدين لا يتعلق به ملك ولا يتناوله عقد ، بل المستحق هو الجنس والمقدار فقط دون خصوص ذلك الفرد وعلى هذا أيضا لا تكون العقود في النقدين تتناول إلا الذمم خاصة ولا فرق عند الإمامين ، ومن وافقهما بين قول القائل بعني بدرهم وبين قوله بعني بهذا الدرهم ويعينه والعقد في الصورتين إنما يرد على الذمة دون ما عين ونصوص المذهب تتقاضى ذلك من قال له في بيع المعاطاة بعني بهذا الدرهم هذه السلعة فباعه إياها به له والأصحاب غير أنهم إذا قيل لهم إن خصوص النقدين في الشخص لا تملكه وإن خصوص كل دينار لا يملك قد يستشنع ذلك وينكر وهو لازم على المذهب ، وإذا كانت الخصوصيات لا تملك كانت المعاملات بين الناس بالجنس والمقدار فقط فاعلم ذلك [ ص: 258 ] المسألة الثانية ) مالك
قال العبدلي لا تتعين الدنانير والدراهم في مذهب إلا في مسألتين الصرف والكراء ، وقال مالك الشيخ أبو الوليد في المقدمات النقدان يتعينان بالتعيين في الصرف عند وجمهور أصحابه وإن لم تعين تعينت بالقبض وبالمفارقة ولذلك جاز مالك . الرضى بالزائف في الصرف
وقال سند في الطراز إذا لم يتعين النقدان فالعقد إنما يتناول التسليم فإذا قبض في الصرف رديئا ، وقد افترقا قبل القبض لا يتناوله العقد فيفسد فإن قلنا بأن القبض يبرئ الذمة وتعين صح العقد والطارئ بعد ذلك استحقاق أو عيب أو حكم متجدد لنفي الظلامة كعقد النكاح مبرم مفيد للميراث وحل الوطء ، وإذا ظهر بعد الموت عيب بأحد الزوجين يوجب الرد فإذا رضي بالعيب بقي العقد على حاله وإن كره الآخر وإن أراد البدل منعه إلا أن يدلس بائعه وفي المسألة خلاف في كتب الفروع واعلم أن استثناء هاتين المسألتين يحوج إلى ذكر الفرق بينهما وبين سائر المسائل أما الصرف فيمكن أن يقال إنما قال فيه مالك بالتعيين فلضيق بابه وأمر الشرع بسرعة القبض ناجزا للتعيين وذلك مناسب للتضييق ؛ لأن التعيين يحصل مقصود القبض ناجزا بخلاف إذا قلنا إن الصرف إنما ورد على الذمة فاحتمل أن يكون هذا القبض مبرئا لما في الذمة إن كان موافقا وأن لا يكون فبالتعيين يحصل الجزم بالقبض والتناجز . مالك
وأما الكراء فيصعب الفرق بينه وبين غيره وغايته أن يقال فيه إن الكراء يرد على المنافع المعدومة فلو كان النقدان لا يتعينان لكان الكراء أيضا في الذمة فيشبه بيع الدين بالدين وهو حرام بخلاف جميع الأعيان فإنها تتعين غير أن هذا الفرق يشكل فإنه يجوز ويعينه بعد ذلك فيطلب له فرق يليق به ( المسألة الثالثة ) الكراء على الذمة تصريحا
إذا قال جرى غير النقدين مجراهما في المعاملة كالفلوس أو غيرها سند من [ ص: 259 ] أجرى الفلوس مجرى النقدين في تحريم الربا جعلها كالنقدين ومنع البدل في الصرف إذا وجد بعضها رديئا قال في المدونة إذا اشتريت فلوسا بدراهم فوجدت بعد التفرق بعض الفلوس رديئا استحق البدل للخلاف فيها ، وهذا على مذهبه أن الفلوس يكره الربا فيها من غير تحريم وفيها ثلاثة أقوال ، التحريم والإباحة والكراهة والصورة الثانية المستثناة المشخصات ما قاله مالك ابن القاسم في المدونة إذا كان لك دين على أحد لا يجوز أن تأخذ فيه سكنى دار أو خدمة عبد أو ثمرة يتأخر قبضها وإن عينت جميع ذلك وأجراه مجرى فسخ الدين في الدين لأجل صورة التأخر في القبض وإن عين محل المعاوضة فمن هذا الوجه أشبه الدين ، وقال يجوز ذلك لأجل التعيين ، والتعين لا يكون إلا في الذمة وما لا يكون في الذمة لا يكون دينا ، فليس ها هنا فسخ الدين في الدين وهو أوجه أشهب
( القسم الثالث ) من التقسيم لا هو معين مطلقا ولا هو غير معين مطلقا ، بل أخذ شبها من الطرفين وهو فمن جهة أنه غير مرئي أشبه ما في الذمة ولذلك قيل ضمانه من البائع ومن جهة أن العقد لم يقع على جنس ، بل على مشخص معين أشبه المعين من هذا الوجه ولذلك قيل ضمانه من المشتري قال بيع الغائب على الصفة المبيع على ثلاثة أقسام سلم في الذمة وغائب على الصفة وحاضر معين فهذه أقسام ما يتعين وما لا يتعين ، والفرق بينهما مبسوط . القاضي عبد الوهاب