( الفرق الرابع عشر والمائتان بين قاعدة الكذب وقاعدة ) الوعد وما يجب الوفاء به منه وما لا يجب
قال الله عز وجل { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } والوعد إذا أخلف قول لم يفعل فيلزم أن يكون كذبا محرما ، وأن يحرم مطلقا . إخلاف الوعد
وقال عليه السلام من { } فذكره في سياق الذم دليل على التحريم ، ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ، وعد المؤمن واجب أي وعده واجب الوفاء به [ ص: 21 ] وفي الموطإ { علامة المنافق ثلاث إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا وعد أخلف } فمنعه من الكذب المتعلق بالمستقبل فإن رضى النساء إنما يحصل به ، ونفى الجناح على الوعد ، وهو يدل على أمرين : ( أحدهما ) أن إخلاف الوعد لا يسمى كذبا لجعله قسيم الكذب قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أكذب لامرأتي فقال صلى الله عليه وسلم لا خير في الكذب فقال يا رسول الله أفأعدها ، وأقول لها فقال عليه السلام لا جناح عليك
( وثانيها ) أن إخلاف الوعد لا حرج فيه [ ص: 22 ]
ولو كان المقصود الوعد الذي يفي به لما احتاج للسؤال عنه ، ولما ذكره مقرونا بالكذب ، ولكن قصده إصلاح حال امرأته بما لا يفعله فتخيل الحرج في ذلك فاستأذن عليه ، وفي قال عليه السلام { أبي داود } فهذه الأدلة تقتضي عدم الوفاء بالوعد ، وأن ذلك مباح ، والكذب ليس بمباح فلا يكون الوعد يدخله الكذب عكس الأدلة الأول ، واعلم أنا إذا فسرنا الكذب بالخبر الذي لا يطابق لزم دخول الكذب في الوعد بالضرورة مع أن ظاهر الحديث يأباه ، وكذلك التأثيم فمن الفقهاء من قال الكذب يختص بالماضي والحاضر ، والوعد إنما يتعلق بالمستقبل فلا يدخله الكذب ، وسيأتي الجواب عن الآية ونحوها إن شاء الله [ ص: 23 ] تعالى ، ومنهم من يقول لم يتعين عدم المطابقة في المستقبل بسبب أن المستقبل زمان يقبل الوجود والعدم ، ولم يقع فيه بعد وجود ولا عدم فلا يوصف الخبر عند الإطلاق بعدم المطابقة ، ولا بالمطابقة لأنه لم يقع بعد ما يقتضي أحدهما ، وحيث قلنا الصدق القول المطابق ، والكذب القول الذي ليس بمطابق ظاهر في وقوع وصف المطابقة أو عدمها بالفعل ، وذلك مختص بالحال والماضي . إذا وعد أحدكم أخاه ، ومن نيته أن يفي فلم يف فلا شيء عليه
وأما المستقبل فليس فيه إلا قبول المطابقة وعدمها ، ونحن متى حددنا بوصف نحو قولنا في الإنسان الحيوان الناطق أو نحوه إنما نريد الحياة والنطق بالفعل لا بالقوة ، وإلا لكان كله إنسانا لأنه قابل للحياة ، والنطق ، وهذا التعليل يؤيد القول الأول [ ص: 24 ] ومنهم من يقول الكل يدخله الكذب ، وإنما سومح في الوعد تكثيرا للعدة بالمعروف فعلى هذا القول لا فرق بين الكذب والوعد ، والأول هو الذي ظهر لي لعدم تعين المطابقة وعدمها اللذين هما ضابطا الصدق والكذب ، وعلى ذلك يقع الفرق بينه وبين الكذب وبين الصدق فلا يوصف بواحد منهما ، ويختص بالماضي والحاضر فإن قلت يلزم ذلك في وعد الشرائع ووعيدها فلا يوصفان بواحد منهما ، وليس كذلك لقوله تعالى { وعدكم وعد الحق } ، وصدق الله وعده { الحمد لله الذي صدقنا وعده ، وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء } { هل وجدتم ما وعد ربكم حقا } إلى غير ذلك من النصوص الدالة على ، والأصل في الاستعمال الحقيقة ( دخول الصدق في وعد الله تعالى ووعيده قلت ) الله تعالى يخبر عن معلوم ، وكل ما تعلق به العلم تجب مطابقته بخلاف واحد من البشر إنما ألزم نفسه أن يفعل مع تجويز أن يقع ذلك منه ، وأن لا يقع فلا تكون المطابقة وعدمها معلومين ، ولا واقعين فانتفيا بالكلية وقت الإخبار ، واعلم أن الفقهاء اختلفوا في قال الوعد هل يجب الوفاء به شرعا أم لا إذا سألك أن تهب له دينارا فقلت نعم ثم بدا لك [ ص: 25 ] لا يلزمك ، ولو كان افتراق الغرماء عن وعد وإشهاد لأجله لزمك لإبطالك مغرما بالتأخير قال مالك الذي يلزم من الوعد قوله اهدم دارك ، وأنا أسلفك ما تبني به أو اخرج إلى الحج ، وأنا أسلفك أو اشتر سلعة أو تزوج امرأة ، وأنا أسلفك لأنك أدخلته بوعدك في ذلك أما مجرد الوعد فلا يلزم الوفاء به بل الوفاء من مكارم الأخلاق . سحنون
وقال يقضى عليك به تزوج الموعود أم لا ، وكذا أسلفني لأشتري سلعة كذا لزمك تسبب في ذلك أم لا ، والذي لا يلزم من ذلك أن تعده من غير ذكر سبب فيقول لك أسلفني كذا فتقول نعم بذلك قضى أصبغ رحمه الله ، وإن وعدت غريمك بتأخر الدين لزمك لأنه إسقاط لازم للحق سواء قلت له أؤخرك أو أخرتك ، وإذا أسلفته فعليك تأخيره مدة تصلح لذلك ، وحينئذ نقول وجه الجمع بين الأدلة المتقدمة التي يقتضي بعضها الوفاء به ، وبعضها عدم الوفاء به أنه إن أدخله في سبب يلزم بوعده لزم كما قال عمر بن عبد العزيز مالك وابن القاسم أو وعده مقرونا بذكر السبب كما قاله وسحنون لتأكد العزم على الدفع حينئذ ويحمل عدم اللزوم على خلاف ذلك مع أنه قد قيل في الآية إنها نزلت في قوم كانوا يقولون جاهدنا ، وما جاهدوا ، وفعلنا أنواعا من الخيرات ، وما فعلوها ، ولا شك أن هذا محرم لأنه كذب ، ولأنه تسميع بطاعة الله تعالى ، وكلاهما محرم ومعصية اتفاقا . أصبغ
وأما ما ذكر من الإخلاف في فمعناه أنه سجية له ، ومقتضى حاله الإخلاف ، ومثل هذه السجية يحسن الذم بها كما يقال سجيته تقتضي البخل والمنع فمن كانت صفاته تحث على الخير مدح أو تحث على الشر ذم شرعا وعرفا ، واعلم أنه لا بد في هذا الفرق من مخالفة بعض الظواهر إن جعلنا الوعد يدخله الكذب بطل { صفة المنافق } ، وأباح له الوعد ، وهو ظاهر في أنه ليس بكذب ، ولا يدخله الكذب ، ولأن الكذب حرام إجماعا فيلزم معصيته فيجب الوفاء به نفيا للمعصية ، وليس كذلك . لقوله عليه السلام للسائل لما قال له أأكذب لامرأتي قال لا خير في الكذب
وإن قلنا إن الكذب لا يدخله ، ورد علينا ظواهر وعد الله ووعيده فلا بد من الجمع بينهما ، وما ذكرته أقرب الطرق في ذلك . [ ص: 26 ]