وكان فيه من الشرك الخفي بحسب ما كرهه مما يحبه الله، وما أحبه مما يكرهه.
قال الله تعالى: ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم [محمد: 28].
قال عن الليث في قوله تعالى: مجاهد لا يشركون بي شيئا [النور: 55]؛ أي: لا يحبون غيري.
وفي «صحيح » عن الحاكم -رضي الله عنها-، عن النبي، قال: عائشة «الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء، وأدناه: أن تحب على شيء من الجور، أو تبغض على شيء من العدل».
وهل الدين إلا الحث والبغض في الله؟!
قال الله -عز وجل-: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [آل عمران:31].
وأخرجه أيضا ابن أبي حاتم، في «الحلية». وأبو نعيم
وهذا نص على أن محبة ما يكرهه الله، وبغض ما يحبه الله -متابعة للهوى، والموالاة على ذلك، والمعاداة عليه- من الشرك الخفي.
وقال الحسن: اعلم أنك لن تحب الله حتى تحب طاعته.
وسئل متى أحب ربي؟ قال: إذا كان ما يبغضه عند أمر من الصبر. ذو النون:
وقال بشر بن السري: ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغضه حبيبك.
وقال أبو يعقوب النهرجوري: كل من ادعى محبة الله، ولم يوافق الله في أمره، فدعواه باطلة.
وقال يحيى بن معاذ: ليس بصادق من ادعى محبة الله، ولم يحفظ حدوده. [ ص: 162 ]
وقال رويم: المحبة: الموافقة في جميع الأحوال، وأنشد:
ولو قلت لي مت مت سمعا وطاعة وقلت لداعي الموت: أهلا ومرحبا
ويشهد لهذا المعنى أيضا قوله تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [آل عمران: 31].قال قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا نحب ربنا حبا شديدا، فتحب أن يجعل الله لحبه عاما، فأنزل الله هذه الآية. الحسن:
ومن هاهنا يعلم أنه لا تتم شهادة أن لا إله إلا الله إلا بشهادة أن محمدا رسول الله.
فإنه إذا علم أنه لا تتم محبة الله إلا بمحبة ما يحبه وكراهة ما يكرهه، ولا طريق إلى معرفة ما يحبه، وما يكرهه إلا من جهة محمد المبلغ عن الله ما يحبه، وما يكرهه، فصارت محبة الله مستلزمة لمحبة رسوله، وتصديقه، ومتابعته.
ولهذا قرن الله بين محبته ومحبة رسوله في قوله: قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم إلى قوله: أحب إليكم من الله ورسوله [التوبة: 54]، كما قرن بين طاعته وطاعة رسوله في مواضع كثيرة.
وقال صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار».
هذه حال السحرة لما سكنت المحبة في قلوبهم، سمحوا ببذل نفوسهم، وقالوا لفرعون: فاقض ما أنت قاض [طه: 72].
ومتى تمكنت المحبة في القلب، لم تبعث الجوارح إلا إلى طاعة الله رب العالمين.
وهذا هو معنى الحديث الإلهي الذي خرجه في «صحيحه»، وفيه: البخاري «لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي [ ص: 163 ] يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها».
وقد قيل: إن في بعض الروايات: «فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي».
والمعنى: أن محبة الله إذا استغرق بها القلب، واستولت عليه، لم تبعث الجوارح إلا إلى مراضي الرب، وصارت النفس حينئذ مطمئنة بإرادة مولاها عن مرادها وهواها.
يا هذا! اعبد الله لمراده منك، لا لمرادك منه.
فمن عبده لمراده منه، فهو ممن يعبد الله على حرف: فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة [الحج: 11].
ومني قويت المعرفة والمحبة، لم يرد صاحبها إلا ما يريده مولاه.
وفي بعض الكتب السالفة: من أحب الله، لم يكن عنده شيء أحب من رضاه، ومن أحب الدنيا، لم يكن شيء عنده آثر من هوى نفسه.
وروى بإسناده عن الحسن قال: ما نظرت ببصري، ولا نطقت بلساني، ولا بطشت بيدي، ولا نهضت على قدمي حتى أنظر: على طاعة، أو معصية؟ فإن كانت طاعة، تقدمت، وإن كانت معصية، تأخرت. ابن أبي الدنيا
هذه خواص المحبين الصادقين.
فافهموا -رحمكم الله- هذا؛ فإنه من دقائق أسرار التوحيد الغامضة.
وإلى هذا المقام أشار النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته لما قدم المدينة حيث قال:
«أحبوا الله من كل قلوبكم»، وقد ذكرها وغيره. ابن إسحاق،
فإن من امتلأ قلبه من محبة الله، لم يكن فيه فراغ لشيء من إرادة النفس، والهوى.
وإلى ذلك أشار القائل بقوله:
أروح وقد ختمت على فؤادي بحبك أن يحل به سواكا
فلو أني استطعت غضضت طرفي فلم أنظر به حتى أراكا
[ ص: 164 ] أحبك لا ببعضي بل بكلي وإن لم يبق حبك لي حراكا
وفي الأحباب مختص بوجد وآخر يدعي معه اشتراكا
إذا انسكبت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى
فأما من بكى فيذوب وجدا وينطق بالهوى من قد تباكى
فبي يسمع، وبي يبصر، القلب بيت الرب.
وفي الإسرائيليات: يقول الله: ما وسعني سمائي، ولا أرضي، ووسعني قلب عبدي المؤمن.
فمتى كان القلب فيه غير الله، فالله أغنى الأغنياء عن الشرك، وهو لا يرضى بمزاحمة أصنام الهوى.
الحق غيور يغار على عبده المؤمن أن يكون في قلبه سواه، وأن يكون فيه شيء لا يرضاه.
أردناكم صرفا فلما مزجتم بعدتم بمقدار التفاتكم عنا
وقلنا لكم لا تسكنوا القلب غيرنا فأسكنتم الأغيار ما أنتم منا
قال الله تعالى: يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم [الشعراء: 89]. هو الطاهر من أدناس المخالفات.
فأما المتلطخ بشيء من المكروهات، فلا يصلح لمجاورة حضرة القدس إلا [ ص: 165 ] بعد أن يطهر في كير العذاب، فإذا زال منه الخبث، صلح حينئذ للمجاورة.
«إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا».
فأما القلوب الطيبة، فتصلح للمجاورة من أول الأمر: سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين [الزمر: 73]، الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون [النحل: 32].
من لم يحرق اليوم قلبه بنار الأسف على ما سلف، أو بنار الشوق إلى لقاء الحبيب، فنار جهنم أشد حرا.
ما يحتاج إلى التطهير بنار جهنم إلا من لم يكمل تحقيق التوحيد، والقيام بحقوقه.
وأول من تسعر به النار من الموحدين العباد المراؤون بأعمالهم.
وأولهم: العالم، والمجاهد، والمتصدق للرياء؛ لأن يسير الرياء شرك.
ما نظر المرائي بعمله إلا بجهله بعظمة الخالق، والمرائي يزور التواقيع على اسم الملك ليأخذ البراطيل لنفسه، ويوهم أنه من خاصة الملك، وهو ما يعرف الملك بالكلية.
نقش المرائي على الدرهم الزائف اسم الملك ليروج، وليبهرج، والبهرج ما يجوز إلا على غير الناقد.
وبعد أهل الرياء يدخل النار أهل الشهوات، وعبيد الهوى الذين أطاعوا هواهم، وعصوا مولاهم.
فأما عبيد الله حقا، فيقال لهم: يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي [الفجر: 27-30].
جهنم تنطفئ بنور إيمان الموحدين. وفي الحديث: تقول النار للمؤمن: «جز يا مؤمن، فقد أطفأ نورك لهبي».
وفي «المسند» عن عن النبي صلى الله عليه وسلم: جابر، «لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها، [ ص: 166 ] فتكون على المؤمن بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم، حتى إن للنار ضجيجا من بردهم».
هذا ميراث ورثه «المحبون» من حال الخليل -عليه السلام-.
نار المحبة في قلوب المحبين تخاف منها نار جهنم.
قال قالت النار: يا رب! لو لم أطعك، هل كنت تعذبني بشيء أشد مني؟ الجنيد:
قال: نعم، كنت أسلط عليك ناري الكبرى.
قالت: وهل نار أعظم مني، وأشد؟
قال: نعم، نار محبتي، أسكنها قلوب أوليائي المؤمنين.
وكان بعض العارفين يقول: أليس عجبا أن أكون حيا بين أظهركم، وفي قلبي من الاشتياق إلى ربي مثل شعل النار التي لا تطفأ؟!
ولم أر سوى نار الحب نارا تزيد ببعد موقدها إيقادا.
ما للعارفين شغل بغير مولاهم، ولا لهم غيره.
وفي الحديث: «من أصبح وهمه غير الله، فليس من الله».
قال بعضهم: من أخبرك أن وليه له هم في غيره، فلا تصدقه.
وكان داود الطائي يقول: في الليل همك عطل عني الهموم، وخالف بيني وبين السهاد، وشوقي النظر إليك أوبق مني اللذات، وحال بيني وبين الشهوات، فأنا في سجنك أيها الكريم.
إذا فهمتم هذا المعنى، فهمتم معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «من شهد أن لا إله إلا الله، صادقا من قلبه، حرمه الله على النار».