الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقال القاضي البيضاوي -رحمه الله تعالى - في «تفسيره » تحت تفسير الآية الأولى ما نصه :

إن الله لا يغفر أن يشرك به لأنه بت الحكم على خلود عذابه ، ولأنه ذنب لا ينمحي عنه أثره ، فلا يستعد للعفو بخلاف غيره .

ويغفر ما دون ذلك ؛ أي : ما دون الشرك صغيرا كان ، أو كبيرا لمن يشاء تفضلا عليه ، وإحسانا .

وأول المعتزلة الفعلين على معنى : أن الله لا يغفر الشرك لمن يشاء ، وهو من لم يتب ، ويغفر ما دونه لمن يشاء ، وهو من تاب .

وفيه تقييد بلا دليل ؛ إذ ليس عموم آيات الوعيد بالمحافظة أولى منه ، ونقض لمذهبهم .

فإن تعليق الأمر بالمشيئة ينافي وجوب التعذيب قبل التوبة ، والصفح بعدها .

فالآية كما هي حجة عليهم ، فهي حجة على الخوارج الذين زعموا أن كل ذنب شرك ، وأن صاحبه خالد في النار .

ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ارتكب ما يستحقر دونه الآثام ، [ ص: 356 ] وهو إشارة إلى المعنى الفارق بينه وبين سائر الذنوب .

والافتراء كما يطلق على القول يطلق على الفعل ، وكذلك الاختلاق . انتهى .

وأما الثانية : إن الله لا يغفر إلخ ، فقال : كرره للتأكيد ، أو لقصة «طعمة » .

وقيل : جاء شيخ . . . إلخ .

ومن يشرك بالله إلخ ، فقال : وإنما ذكر في الآية الأولى : فقد افترى ؛ لأنها متصلة بقصة أهل الكتاب .

ومنشأ شركهم كان نوع افتراء ، وهو دعوى التبني على الله سبحانه وتعالى - انتهى - .

قال الشهاب الخفاجي في «العناية » : قوله : وأول المعتزلة . . . إلخ رد على الزمخشري فيما تعسفه هنا .

وتقريره -كما قال النحرير - أنه لا خفاء في أن ظاهر الآية التفرقة بين الشرك وما دونه ؛ بأن الله لا يغفر الأول ألبتة ، ويغفر الثاني لمن يشاء .

ونحن نقول بذلك عند عدم التوبة ، فحملنا الآية عليه بقرينة الآيات والأحاديث الدالة على قبول التوبة فيهما جميعا ، ومغفرتهما عندها بلا خلاف من أحد .

لا يقال : حقيقة المغفرة الستر ، وترك إظهار الأثر ، والمؤاخذة على ما هو باق كالمعصية المتصف بها الشخص تاب ، أو لم يتب ، وهذا لا يتصور في الشرك إلا على تقدير عدم التوبة عنه بالإيمان ؛ إذ هو مع الإيمان يزول عنه بالكلية ، ولا يبقى حتى يغفر ، وإنما المغفرة بالنسبة ترك التعيير بما سلف منه ، وهما معنيان مفترقان لا يقع اللفظ عليهما ، فلا حاجة في الآية إلى التقييد بعدم التوبة ؛ إذ لا مغفرة للشرك الباقي ألبتة ، بخلاف ما دونه لمن يشاء ؛ لأنا نقول : الزائل بالإيمان هو الكيفية الحاصلة في النفس ، والاعتقاد الباطل ، وأما كونه قد أشرك ، فمساو لكونه قد زنى . [ ص: 357 ]

وأما المعتزلة ، فلا يقولون بالتفرقة بين الشرك وما دونه من الكبائر ؛ في أنهما يغفران بالتوبة ، ولا يغفران بدونها ، فحملوا الآية على معنى : أن الله لا يغفر الإشراك لمن شاء ألا يغفر له ، وهو غير التائب ، ويغفر ما دونه لمن يشاء أن يغفر له ، وهو التائب .

فقيد المنفي بما قيد به المثبت على قاعدة التنازع .

لكن من يشاء في الأول : المصرون بالاتفاق ، وفي الثاني : التائبون ؛ قضاء لحق التقابل .

وليس هذا من استعمال اللفظ الواحد في معنيين متضادين ؛ لأن المذكور إنما تعلق بالثاني ، وقدر في الأول مثله ، والمعنى واحد .

لكن مفعول المشيئة يقدر في الأول : عدم الغفران ، وفي الثاني : الغفران ؛ بقرينة سبق الذكر .

التالي السابق


الخدمات العلمية