[ ص: 198 ] باب
في بيان درجات الصاعدين إلى مقامات الموحدين
قال بعض العلماء: هذه ثمانية درجات يرقى بها المستفيد إلى معارج علم التوحيد، ويصعد بها السالك على مدارج حكم التفريد، ويجاوز بها دركات الشرك والتقليد.
الدرجة الأولى
الأولى: أن
nindex.php?page=treesubj&link=28666أصل البعثة، ورأس الدعوة هو توحيد الألوهية الذي هو إفراد الله بالعبادة، ونفي الشريك منها، والدليل على ذلك قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=5والرجز فاهجر [المدثر:5].
قال المفسرون: «الرجز»: هو الأوثان، «والهجر»: هو الترك.
وفي الحديث ما يدل على أن عبادة الشيء تصير وثنا.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
nindex.php?page=hadith&LINKID=707584«اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد».
وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=1سبحانه وتعالى عما يشركون nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=2ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون [النحل: 1-2].
قال البغوي: أي: مروهم بلا إله إلا الله.
وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=36ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة [النحل: 36].
[ ص: 199 ]
قال أهل العلم: الطاغوت: اسم عام لما يعبد من دون الله.
وطاغوت كل قوم: معبودهم من دون الله، أو متبوعهم على غير بصيرة من الله، أو حاكمهم بغير ما أنزل الله.
وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=25وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [الأنبياء:25].
وهذه الأدلة في دعوة كل رسول أمته إلى التوحيد: إما مجملة، وإما مفصلة.
فهذه آيات القرآن المتقدمة في الباب الأول من هذا الكتاب فيها ذكر الأنبياء -عليه السلام- اسما باسم، وفيها الأمر لهم بإنذار قومهم، وفيها
nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=3أن اعبدوا الله واتقوه .[نوح:3].
والمراد بالإنذار: الأمر بالعبادة التي هي التوحيد، والتقوى، والطاعة، وذكر الله تعالى.
وفي سورة نوح ما قال نوح، وما قال له قومه حتى ذكر:
nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=23وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا [نوح: 23].
وهذه أسماء قوم صالحين ماتوا جميعا، فحزنوا عليهم، ونصبوا صورهم، وكانوا يعكفون عليها، ويعبدونهم بعد طول المدة.
وكان ذلك أول شرك بني آدم وقع في الأرض.
وسببه: هو
nindex.php?page=treesubj&link=28808الغلو في الصلحاء، وتلك الصور هي أصول أصنام قريش أيضا.
وفي سورة العنكبوت ذكر دعوة إبراهيم -عليه السلام.
وكذلك ذكرها في سورة الشعراء، وفيها ذكر عبادة الأصنام، وهو عكوفهم عليها.
[ ص: 200 ]
وفي سورة الممتحنة: في قصته -عليه السلام- أيضا ما يدل على وجوب البراءة منهم، والكفر بهم، وظهور العداوة والبغضاء حتى يؤمنوا بالله وحده.
فالغاية التي ينتهي عندها هذه الأمور في الإخلاص في العبادة، والتصديق والإذعان له.
وفي سورة الزخرف:
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=26وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=27إلا الذي فطرني فإنه سيهدين [الزخرف:26].
وهذه الكلمة هي الباقية في عقبه، وهي معنى لا إله إلا الله.
إذ قوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=26إنني براء مما تعبدون معناه: النفي، وقوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=27إلا الذي فطرني
معناه: الإثبات. ذكر هذا
nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي في كتاب «الأسماء والصفات».
وفي سورة النحل:
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=123ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين [النحل: 123]، و«الحنيف»: هو الموحد.
والخطاب يقتضي العموم، فهذه ملته -عليه السلام- أيها السالكون، وهذه سنة رسولنا صلى الله عليه وسلم أيها المتبعون.
وقد وصى
إبراهيم بنيه،
ويعقوب بذلك كما حكاه -سبحانه وتعالى- عنه في الكتاب، ومن أصدق من الله قيلا.
وفي سورة الأنعام:
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=83وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=84ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=85وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=86وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=87ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم [ ص: 201 ] nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=88ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون [الأنعام:83- 88].
هذا مقام سكوب العبرات إن كنت -يا هذا- من أهل الاعتبارات لمعاني العبارات.
والحجة التي أوتيها إبراهيم الخليل على قومه في قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=82الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون [الأنعام:82].
قاله مجاهد كما ذكر البغوي في تفسيرها.
والظلم هنا: هو الشرك كما ذكره البخاري في صحيحه في كتاب التفسير.
وقيل: هي التي احتج بها إبراهيم على قومه من أفول الكواكب، وغيرها.
وقال أصدق القائلين في أصدق الكتب:
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=65ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=66بل الله فاعبد وكن من الشاكرين [الزمر:65-66].
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد: هو، وأمته جميعا.
وما أخوف هذا الكلام لمن له بالدين الحق إلمام!
فإن الله تعالى إذا كان خاطب سيد الرسل بهذا الخطاب، فما ظنك بغيره من الناس، وإن بلغوا أي مبلغ في الشرف والمكان؟!
ثم حكى سبحانه في سورة الأعراف دعوة نوح قومه إلى عبادة الله تعالى
[ ص: 202 ] وكذا عن
صالح، وهود، و«شعيب»، ولوط، وموسى، إلى آخر ما قصه عن الرسل العظام في بيان هذا المرام من دعوتهم أقوامهم إلى توحيد الألوهية، وإخلاص العبادة له -سبحانه وتعالى-.
وختم ذلك بنبينا صلى الله عليه وسلم، وقال سبحانه:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=158قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون [الأعراف: 158].
وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=2ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير [يونس: 2].
فتفكر في هذه الدعوة من الرسل ما هي؛ فقد قص الله علينا في كتابه العزيز دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم.
والله تعالى قال في سورة هود:
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=120وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين [هود: 120].
قيل: الحكاية جند من جنود الله، أي: لا ترد، ولا تقاوم.
فانظر ما في أنباء الرسل من الفوائد العظيمة:
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=25والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم [يونس:25].
وفي
nindex.php?page=showalam&ids=12070«البخاري» عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس: اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم.
وفي «صحيح مسلم» عن حديث
عمرو بن عنبسة في قوله:
nindex.php?page=hadith&LINKID=658382ما أرسلك الله به؟ قال: أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحدوا الله، ولا يشركوا به شيئا. [ ص: 203 ]
فانظر إلى ما ذكر فيهما من
nindex.php?page=treesubj&link=29705_28666معنى الدعوة، والرسالة، وأنه توحيد الألوهية، وترك الشرك، ورفض ما عليه الآباء المشركون.
وتفكر فيما كان عليه النبي وأصحابه بعد الهجرة، وقبلها، وما كانوا يدعون الناس إليه، وينهونهم عنه، والقرآن ينزل عليه عشر سنين ما بين مقبل ومدبر، والموالاة والمعاداة قائمة بين المقر والمنكر، ومكث على ذلك عشر سنين.
فمن لم يتبعه، ولم يطعه، فهو المشرك الهالك، وليس إذ ذاك صلاة ولا صيام، فضلا عن غيرهما من شرائع الإسلام.
ولا هناك نهي عن شيء من الكبائر تقام فيه الحدود، والأحكام.
ومات على ذلك كثير من الفريقين: فريق في الجنة، وفريق في السعير.
فإذا تفكرت، ظهرت لك الفائدة، وعاد عليك النظر بأحسن عائدة، وتبين لك أن الذي طلبه منهم توحيد الألوهية، وإفراد الله تعالى بالعبادة؛ من الذبح، والاعتقاد، والعكوف، ونحوها، وأنهم مشركون بذلك، يعاديهم عليه، ويحاربهم فيه من غير نظر إلى بقية المعاصي من الكبائر، والصغائر، وأن أصحابه هم الموحدون بترك ذلك، وصرفه لله دون غيره، يواليهم عليه، ويدعوهم إليه من غير نظر إلى غيره من الطاعات الواجبات، والمندوبات.
وبهذا التقدير يحصل التأثير، وتنقشع ظلمة الجهل بهذا التنوير
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=57يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=58قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون [يونس:58].
[ ص: 198 ] بَابٌ
فِي بَيَانِ دَرَجَاتِ الصَّاعِدِينَ إِلَى مَقَامَاتِ الْمُوَحِّدِينَ
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هَذِهِ ثَمَانِيَةُ دَرَجَاتٍ يَرْقَى بِهَا الْمُسْتَفِيدُ إِلَى مَعَارِجِ عِلْمِ التَّوْحِيدِ، وَيَصْعَدُ بِهَا السَّالِكُ عَلَى مَدَارِجِ حِكَمِ التَّفْرِيدِ، وَيُجَاوِزُ بِهَا دَرَكَاتِ الشِّرْكِ وَالتَّقْلِيدِ.
الدَّرَجَةُ الْأُولَى
الْأُولَى: أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28666أَصْلَ الْبَعْثَةِ، وَرَأْسَ الدَّعْوَةِ هُوَ تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ الَّذِي هُوَ إِفْرَادُ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ، وَنَفْيُ الشَّرِيكِ مِنْهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=5وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [الْمُدَّثِّرُ:5].
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: «الرِّجْزُ»: هُوَ الْأَوْثَانُ، «وَالْهَجْرُ»: هُوَ التَّرْكُ.
وَفِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِبَادَةَ الشَّيْءِ تَصِيرُ وَثَنًا.
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
nindex.php?page=hadith&LINKID=707584«اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ».
وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=1سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=2يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مِنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ [النَّحْلُ: 1-2].
قَالَ الْبَغَوِيُّ: أَيْ: مُرُوهُمْ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=36وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهَ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النَّحْلُ: 36].
[ ص: 199 ]
قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: الطَّاغُوتُ: اسْمٌ عَامٌّ لِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
وَطَاغُوتُ كُلِّ قَوْمٍ: مَعْبُودُهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَوْ مَتْبُوعُهُمْ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ مِنَ اللَّهِ، أَوْ حَاكِمُهُمْ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ.
وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=25وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الْأَنْبِيَاءُ:25].
وَهَذِهِ الْأَدِلَّةُ فِي دَعْوَةِ كُلِّ رَسُولٍ أُمَّتَهُ إِلَى التَّوْحِيدِ: إِمَّا مُجْمَلَةً، وَإِمَّا مُفَصَّلَةً.
فَهَذِهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ فِيهَا ذِكْرُ الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- اسْمًا بِاسْمٍ، وَفِيهَا الْأَمْرُ لَهُمْ بِإِنْذَارِ قَوْمِهِمْ، وَفِيهَا
nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=3أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ .[نُوحٌ:3].
وَالْمُرَادُ بِالْإِنْذَارِ: الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ الَّتِي هِيَ التَّوْحِيدُ، وَالتَّقْوَى، وَالطَّاعَةُ، وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى.
وَفِي سُورَةِ نُوحٍ مَا قَالَ نُوحٌ، وَمَا قَالَ لَهُ قَوْمُهُ حَتَّى ذَكَرَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=23وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نُوحٌ: 23].
وَهَذِهِ أَسْمَاءُ قَوْمٍ صَالِحِينَ مَاتُوا جَمِيعًا، فَحَزِنُوا عَلَيْهِمْ، وَنَصَبُوا صُوَرَهُمْ، وَكَانُوا يَعْكُفُونَ عَلَيْهَا، وَيَعْبُدُونَهُمْ بَعْدَ طُولِ الْمُدَّةِ.
وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ شِرْكِ بَنِي آدَمَ وَقَعَ فِي الْأَرْضِ.
وَسَبَبُهُ: هُوَ
nindex.php?page=treesubj&link=28808الْغُلُوُّ فِي الصُّلَحَاءِ، وَتِلْكَ الصُّوَرُ هِيَ أُصُولُ أَصْنَامِ قُرَيْشٍ أَيْضًا.
وَفِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ ذَكَرَ دَعْوَةَ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَكَذَلِكَ ذَكَرَهَا فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ، وَفِيهَا ذِكْرُ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَهُوَ عُكُوفُهُمْ عَلَيْهَا.
[ ص: 200 ]
وَفِي سُورَةِ الْمُمْتَحَنَةِ: فِي قِصَّتِهِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَيْضًا مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْبَرَاءَةِ مِنْهُمْ، وَالْكُفْرِ بِهِمْ، وَظُهُورِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ حَتَّى يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ.
فَالْغَايَةُ الَّتِي يَنْتَهِي عِنْدَهَا هَذِهِ الْأُمُورُ فِي الْإِخْلَاصِ فِي الْعِبَادَةِ، وَالتَّصْدِيقِ وَالْإِذْعَانِ لَهُ.
وَفِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=26وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=27إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزُّخْرُفُ:26].
وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ هِيَ الْبَاقِيَةُ فِي عَقِبِهِ، وَهِيَ مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
إِذْ قَوْلُهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=26إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ مَعْنَاهُ: النَّفْيُ، وَقَوْلُهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=27إِلا الَّذِي فَطَرَنِي
مَعْنَاهُ: الْإِثْبَاتُ. ذَكَرَ هَذَا
nindex.php?page=showalam&ids=13933الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ «الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ».
وَفِي سُورَةِ النَّحْلِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=123ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النَّحْلُ: 123]، وَ«الْحَنِيفُ»: هُوَ الْمُوَحِّدُ.
وَالْخِطَابُ يَقْتَضِي الْعُمُومَ، فَهَذِهِ مِلَّتُهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَيُّهَا السَّالِكُونَ، وَهَذِهِ سُنَّةُ رَسُولِنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّهَا الْمُتَّبِعُونَ.
وَقَدْ وَصَّى
إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ،
وَيَعْقُوبُ بِذَلِكَ كَمَا حَكَاهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَنْهُ فِي الْكِتَابِ، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا.
وَفِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=83وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=84وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=85وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=86وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=87وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [ ص: 201 ] nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=88ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مَنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الْأَنْعَامُ:83- 88].
هَذَا مَقَامُ سُكُوبِ الْعَبَرَاتِ إِنْ كُنْتَ -يَا هَذَا- مِنْ أَهْلِ الِاعْتِبَارَاتِ لِمَعَانِي الْعِبَارَاتِ.
وَالْحُجَّةُ الَّتِي أُوتِيَهَا إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَى قَوْمِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=82الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الْأَنْعَامُ:82].
قَالَهُ مُجَاهِدٌ كَمَا ذَكَرَ الْبَغَوَيُّ فِي تَفْسِيرِهَا.
وَالظُّلْمُ هُنَا: هُوَ الشِّرْكُ كَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ.
وَقِيلَ: هِيَ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَى قَوْمِهِ مِنْ أُفُولِ الْكَوَاكِبِ، وَغَيْرِهَا.
وَقَالَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ فِي أَصْدَقِ الْكُتُبِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=65وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=66بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الزُّمَرُ:65-66].
وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُرَادُ: هُوَ، وَأُمَّتُهُ جَمِيعًا.
وَمَا أَخْوَفَ هَذَا الْكَلَامَ لِمَنْ لَهُ بِالدِّينِ الْحَقِّ إِلْمَامٌ!
فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا كَانَ خَاطَبَ سَيِّدَ الرُّسُلِ بِهَذَا الْخِطَابِ، فَمَا ظَنُّكَ بِغَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ، وَإِنْ بَلَغُوا أَيَّ مَبْلَغٍ فِي الشَّرَفِ وَالْمَكَانِ؟!
ثُمَّ حَكَى سُبْحَانَهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ دَعْوَةَ نُوحٍ قَوْمَهُ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى
[ ص: 202 ] وَكَذَا عَنْ
صَالِحٍ، وَهُودٍ، وَ«شُعَيْبٍ»، وَلُوطٍ، وَمُوسَى، إِلَى آخِرِ مَا قَصَّهُ عَنِ الرُّسُلِ الْعِظَامِ فِي بَيَانِ هَذَا الْمَرَامِ مِنْ دَعْوَتِهِمْ أَقْوَامَهُمْ إِلَى تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
وَخَتَمَ ذَلِكَ بِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=158قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الْأَعْرَافُ: 158].
وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=2أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ [يُونُسُ: 2].
فَتَفَكَّرْ فِي هَذِهِ الدَّعْوَةِ مِنَ الرُّسُلِ مَا هِيَ؛ فَقَدْ قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ دَعْوَةَ الرُّسُلِ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ.
وَاللَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي سُورَةِ هُودٍ:
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=120وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [هُودٌ: 120].
قِيلَ: الْحِكَايَةُ جُنْدٌ مِنْ جُنُودِ اللَّهِ، أَيْ: لَا تُرَدُّ، وَلَا تُقَاوَمُ.
فَانْظُرْ مَا فِي أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مِنَ الْفَوَائِدِ الْعَظِيمَةِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=25وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يُونُسُ:25].
وَفِي
nindex.php?page=showalam&ids=12070«الْبُخَارِيِّ» عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ.
وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ حَدِيثِ
عَمْرِو بْنِ عَنْبَسَةَ فِي قَوْلِهِ:
nindex.php?page=hadith&LINKID=658382مَا أَرْسَلَكَ اللَّهُ بِهِ؟ قَالَ: أَرْسَلَنِي بِصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَكَسْرِ الْأَوْثَانِ، وَأَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ، وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. [ ص: 203 ]
فَانْظُرْ إِلَى مَا ذُكِرَ فِيهِمَا مِنْ
nindex.php?page=treesubj&link=29705_28666مَعْنَى الدَّعْوَةِ، وَالرِّسَالَةِ، وَأَنَّهُ تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ، وَتَرْكُ الشِّرْكِ، وَرَفْضُ مَا عَلَيْهِ الْآبَاءُ الْمُشْرِكُونَ.
وَتَفَكَّرْ فِيمَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ وَأَصْحَابُهُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَقَبْلَهَا، وَمَا كَانُوا يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَيْهِ، وَيَنْهَوْنَهُمْ عَنْهُ، وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ عَشْرَ سِنِينَ مَا بَيْنَ مُقْبِلٍ وَمُدْبِرٍ، وَالْمُوَالَاةُ وَالْمُعَادَاةُ قَائِمَةٌ بَيْنَ الْمُقِرِّ وَالْمُنْكِرِ، وَمَكَثَ عَلَى ذَلِكَ عَشْرَ سِنِينَ.
فَمَنْ لَمْ يَتْبَعْهُ، وَلَمْ يُطِعْهُ، فَهُوَ الْمُشْرِكُ الْهَالِكُ، وَلَيْسَ إِذْ ذَاكَ صَلَاةٌ وَلَا صِيَامٌ، فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمَا مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ.
وَلَا هُنَاكَ نَهْيٌ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْكَبَائِرِ تُقَامُ فِيهِ الْحُدُودُ، وَالْأَحْكَامُ.
وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ، وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ.
فَإِذَا تَفَكَّرْتَ، ظَهَرَتْ لَكَ الْفَائِدَةُ، وَعَادَ عَلَيْكَ النَّظَرُ بِأَحْسَنِ عَائِدَةٍ، وَتَبَيَّنَ لَكَ أَنَّ الَّذِي طَلَبَهُ مِنْهُمْ تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ، وَإِفْرَادُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ؛ مِنَ الذَّبْحِ، وَالِاعْتِقَادِ، وَالْعُكُوفِ، وَنَحْوِهَا، وَأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ بِذَلِكَ، يُعَادِيهِمْ عَلَيْهِ، وَيُحَارِبُهُمْ فِيهِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى بَقِيَّةِ الْمَعَاصِي مِنَ الْكَبَائِرِ، وَالصَّغَائِرِ، وَأَنَّ أَصْحَابَهُ هُمُ الْمُوَحِّدُونَ بِتَرْكِ ذَلِكَ، وَصَرْفِهِ لِلَّهِ دُونَ غَيْرِهِ، يُوَالِيهِمْ عَلَيْهِ، وَيَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الطَّاعَاتِ الْوَاجِبَاتِ، وَالْمَنْدُوبَاتِ.
وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ يَحْصُلُ التَّأْثِيرُ، وَتَنْقَشِعُ ظُلْمَةُ الْجَهْلِ بِهَذَا التَّنْوِيرِ
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=57يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=58قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يُونُسُ:58].