الصنف الثاني : ، والتعليل لا يقوم بالرب ، ولا يرجع إليه ، بل يرجع لمحض مصلحة المخلوق ، ومنفعته . القدرية النفاة الذين يثبتون نوعا من الحكمة
فعندهم أن العبادات شرعت أثمانا لما يناله العباد من الثواب ، والنعيم ، وأنها بمنزلة استيفاء الأجير أجره .
قالوا : ولهذا جعلها سبحانه عوضا ؛ كقوله تعالى : ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون [الأعراف : 43] .
وقال : إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [الزمر : 10] .
وفي «الصحيح » : . «إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم ، ثم أوفيكم إياها لله »
قالوا : وقد سماها : جزاء ، وأجرة ، وثوابا ؛ لأنه شيء يؤوب إلى العامل من عمله ؛ أي : يرجع إليه .
قالوا : ويدل عليه الموازنة ، فلولا تعلق الثواب بالأعمال عوضا عليها ، لم يكن للموازنة معنى .
وهاتان الطائفتان متقابلتان .
فالجبرية : لم تجعل للأعمال ارتباطا بالجزاء ألبتة .
وجوزت أن يعذب الله من أفنى عمره في طاعته ، وينعم من أفنى عمره في [ ص: 324 ] مخالفته ، وكلاهما سواء بالنسبة إليه ، والكل راجع إلى محض المشيئة .
والقدرية : أوجبت عليه سبحانه رعاية المصالح ، وجعلت ذلك كله بمحض الأعمال ، وأن وصول الثواب إلى العبد بدون عمله فيه تنقيص باحتمال منة الصدقة عليه بلا ثمن .
فجعلوا تفضله سبحانه على عبده بمنزلة صدقة العبد على العبد .
وإن أعطاه ما يعطيه من أجرة على عمله أحب إلى العبد من أن يعطيه فضلا منه بلا عمل .
وهم يجعلون للأعمال تأثيرا في الجزاء ألبتة .
والطائفتان منحرفتان عن الصراط المستقيم .
وهو أن الأعمال أسباب موصلة إلى الثواب ، والأعمال الصالحات من توفيق الله ، وفضله ، وليست قدرا لجزائه ، وثوابه .
بل غايتها إذا وقعت على أكمل الوجوه أن تكون شكرا على أحد الأجزاء القليلة من نعمه سبحانه .
فلو عذب أهل سمواته ، وأهل أرضه ، لعذبهم وهو غير ظالم لهم .
ولو رحمهم ، لكانت رحمته لهم خيرا من أعمالهم .
وتأمل قوله تعالى : وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون [الزخرف : 72] مع قوله صلى الله عليه وسلم: تجد الآية تدل على أن الجنان بالأعمال ، وتجد الحديث ينفي دخول الجنة بالأعمال . «لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله »
ولا تنافي بينهما ؛ لأن توارد النفي والإثبات ليسا على محل واحد .
فالنفي بالثمنية ، واستحقاق الجنة بمجرد الأعمال رد على القدرية المجوسية التي زعمت أن للأعمال تأثيرا في جزائها البتة .
والباء المثبتة التي وردت في القرآن هي باء السببية رد على القدرية الجبرية الذين يقولون: لا ارتباط بين الأعمال وجزائها البتة ، ولا هي أسباب لها ، وإنما غايتها أن تكون أمارة . [ ص: 325 ]
والسنة النبوية هي أن عموم مشيئة الله ، وقدرته لا تنافي ربط الأسباب بالمسببات ، وارتباطها بها .
وكل طائفة من أهل الباطل تركت نوعا من الحق ، فإنها ارتكبت لأجله نوعا من الباطل ، بل أنواعا .
فهدى الله أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .