باب 
في رد الإشراك في العلم 
قال تعالى : لا يعلمها إلا هو   [الأنعام : 59] المفاتح : جمع مفتح -بالفتح - وهو المخزن ، جعل للأمور الغيبية مخازن يخزن فيها على طريق الاستعارة . أو جمع مفتح -بكسر الميم - ، وهو المفتاح . 
والمعنى : عنده خاصة مخازن الغيب ، أو المفاتح التي يوصل بها إلى المخازن ؛ أي : لا علم لأحد من خلقه بشيء من الأمور الغيبية التي استأثر بعلمها . 
ويستوي في ذلك الملائكة ، والأنبياء والرسل ، والأولياء ، والجن ، والشياطين ، وغيرهم ، كما يدل على هذا الجملة المستثناة . 
فإن هذه الآية الشريفة ، بيان لاختصاص المقدورات الغيبية به تعالى  ، من حيث العلم إثر بيان اختصاص كلها من حيث القدرة . 
وفي هذه الآية الكريمة ما يدفع أباطيل الكهان ، والمنجمين ، والرمليين ، وغيرهم من مدعي الكشف ، والإلهام ما ليس من شأنهم ، ولا يدخل تحت قدرتهم ، ولا يحيط به علمهم . 
ولقد ابتلي الإسلام وأهله بقوم سوء من هذه الأجناس الضالة ، والأنواع المخذولة ، ولم يربحوا من أكاذيبهم وأباطيلهم بغير خطة السوء المذكورة في قول الصادق المصدوق : «من أتى كاهنا ، أو منجما ، فقد كفر بما أنزل على محمد »  .  [ ص: 409 ] 
قال  ابن مسعود   : أوتي نبيكم كل شيء ، إلا مفاتح الغيب  . 
قال  ابن عباس   : إنها الأقدار والأرزاق  . 
وقال الضحاك   : خزائن الأرض ، وعلم نزول العذاب  . 
وقال عطاء   : هو ما غاب عنكم من الثواب والعقاب  . 
وقيل : هو انقضاء الآجال ، وعلم أحوال العباد من السعادة ، والشقاوة ، وخواتيم أعمالهم . 
وقيل : هو علم ما لم يكن ، بعد أن يكون إذ يكون ، كيف يكون ، وما لم يكن ، أن لو كان كيف يكون . 
واللفظ أوسع من ذلك، ويدخل فيه ما ذكروه دخولا أوليا . 
وعن  عمر   -رضي الله عنهما - : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مفاتح الغيب خمس ، لا يعلمها إلا الله تعالى : لا يعلم ما يكون في غد إلا الله ، ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام إلا الله ، ولا تعلم نفس ماذا تكسب غدا ، ولا تدري نفس بأي أرض تموت ، ولا أحد متى يجيء المطر »  . 
أخرجه  البخاري  ، وله ألفاظ . وفي رواية : «ولا يعلم أحد متى تقوم الساعة إلا الله »  . 
وليس في هذه الروايات حصر الأمور الغيبية في تلك الأشياء ، بل فيها أنها أصول الغيب . 
قال بعض أهل العلم في تفسير هذه الآية الشريفة : إن الله تعالى كما هدى عباده لدرك الأمور الظاهرة إلى سبل ؛ كالعين للبصر ، والسمع للسماع ، والأنف للشم ، واللسان للذوق ، واليد للأخذ ، والعقل للفهم .  [ ص: 410 ] 
وهذه السبل في اختيار العباد يستعملونها على وفق إرادتهم ، وينتفعون بها حسب مرادهم . 
مثلا : إذا أراد القلب أن يبصر شيئا ، فتحوا العين ، وإذا لم يرد ، أغلقوها . 
وكذا إذا أرادوا أن يذوقوا شيئا ، ألقوه في الفم ، ولاكوه ، وإذا لم يريدوه ، ما لاكوه ، فكأنه سبحانه أعطاهم مفاتح إدراك هذه الأشياء ، وكل من يكون في يده مفتاح ، تكون الأقفال في اختياره ، فتحها بها متى شاء ، وأغلقها متى شاء . 
فالأمور الظاهرة إدراكها إلى العباد ، إن شاءوا أدركوا ، وإن لم يشاءوا لم يدركوا . فكذلك درك الأمور الغيبية شأن الله تعالى ، ليس باختيار أحد من العباد ، لا ولي ، ولا نبي ، ولا جن ، ولا ملك ، ولا شبح ، ولا شهيد ، ولا إمام ، ولا ولد إمام ، ولا خبيث ، ولا جنية . 
فإن الله تعالى لم يعط أحدا القدرة على إدراك الغيب بحيث متى شاء أدركه وعلم به . بل إذا أراد أن يخبر أحدا بشيء ، يخبره على قدر الإرادة منه له ، لا على قدر إرادة المريد له ، وعلى حسب اقتراحه . 
وقد اتفق لرسول الله صلى الله عليه وسلم مرات : أنه أراد أن يعلم شيئا ويدركه ، فلم يعلم به ، ولا أدركه ، وإذا أراد الله أن يعلمه به ، أخبره في آن واحد . 
مثاله : إن المنافقين قذفوا  عائشة  زوج النبي  صلى الله عليه وسلم، وكان هو صلى الله عليه وسلم في غم عظيم من هذا الأمر ، وكان يحققه إلى أيام معدودة ، فلم يشعر بحقيقة الحال ، والبال قد بلبل ، من القلق ، والهم . 
ولكن لما أراد الله أن يطلعه على ذلك، أخبره أن المنافقين لكاذبون ،  وعائشة  بريئة من قذفهم . فينبغي أن يؤمن بأن مفاتح الغيب عند الله تعالى  ، لم يضعها في يد أحد من الخلق ، ولم يجعل أحدا خازنا لها . بل هي في يده الكريمة  [ ص: 411 ] يفتح بها ويرزق من يشاء ما شاء ، لا يقدر أحد أن يمسك يده . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					