وما مسني السوء ؛ أي : لو علمت الغيب ، ما مسني السوء ، ولحذرت عنه .
وقال : لا يصيبني الفقر . [ ص: 420 ] ابن جرير
وقال ابن زيد : لاجتنبت ما يكون من الشر قبل أن يكون .
وقال الكرخي : أي : ما مسني سوء يمكن التفصي عنه بالتوقي عن موجباته ، والمدافعة بموانعه ، لا سوء ما ، فإن منه ما لا مدفع له إن أنا إلا نذير وبشير ؛ أي : ما أنا إلا مبلغ عن الله أحكامه .
لقوم يؤمنون ؛ أي : الذين كتب في الأزل أنهم يؤمنون ؛ فإنهم المنتفعون به . فلا ينافي بشيرا ونذيرا للناس كافة .
قال في «فتح البيان » : وقد جاءت بها أحاديث في الصحيح ، فهو من قبيل المعجزات . ومن قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك على سبيل التواضع والأدب ، فقد أبعد النجعة . بل الحق أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله معتقدا بذلك، وأن الله هو المستأثر بعلم الغيب . والذي أخبر به صلى الله عليه وسلم عن المغيبات
والمعجزات مخصصة من هذا العموم كما قال تعالى : إلا من ارتضى من رسول [الجن : 27] . انتهى .
فالآية على هذا ، نص في . عدم علمه صلى الله عليه وسلم بالأمور المغيبة
ومن هو أعلى درجة ، وأكمل علما ، وأعرف بالله تعالى من رسوله صلى الله عليه وسلم حتى يعلم الغيب ، ويدعي در كه ؟
قال بعض أهل العلم : إن الأنبياء ، والأولياء أفضلهم خاتم الرسل . والناس قد رأوا معجزاته العظمى ، ومنه تعلموا أسرار الأمور ، وباقتدائه صلى الله عليه وسلم حصلت الكرامة لكل أحد . فلما كان صلى الله عليه وسلم كذلك، خاطبه الله تعالى في هذه الآية ، وأمره أن يقول للناس ما تقدم ؛ ليعلموا حاله في عدم إدراك الغيب ، فامتثل الأمر ، وبلغ الناس عدم قدرته على درك المغيبات ، وبين أنه غير قادر على نفع نفسه ، ولا يملك شيئا منه ومن ضره ، فكيف يملكهما للآخرين ؟
ولو كان العلم بالغيب في قدرته وتحت طاقته ، وكان يعلم عاقبة الأمر ، لنفع نفسه وصانها عن الضر ومس السوء ، ولم يأت إلا بما ينفعه ، لا بما يضره .
وبالجملة : لا قدرة لي ، ولا علم لي بالغيب ، ولا أدعي الإلهية . إنما أنا نبي [ ص: 421 ]
مرسل ، وشأن النبي أن ينذر ويبشر ، ولا ينفع إنذاره وتبشيره إلا لمن يؤمن ويتيقن .
وليس إلقاء الإيقان في القلوب من شأني ، بل هو في قدرة الله وإرادته ، واختياره ، ومشيئة .
فهذه الآية دليل على أن الأنبياء ، والأولياء الذين أكرمهم الله وشرفهم وعظمهم في خلقه ، إنما كرامتهم أنهم يهدون الناس إلى سبيل الله ، وينذرونهم عن عاقبة السيئات ، ويبشرونهم بحسنها على الإتيان بالحسنات ؛ لأنهم عارفون بالمحاسن والقبائح ، مطلعون على الفضائل والرذائل ، فيعلمون الناس ما هم عالمون به من الخيور والشرور . وإن الله تعالى بارك في كلماتهم . فيسلك الناس - ببركاتهم - الصراط المستقيم ، ويهتدون إلى السبيل السوي .
وأما أنهم لا يقدرون على التصرف في العالم ، فلا يستطيعون على إماتة أحد ، ولا على إعطاء ولد ، ولا حل مشكل ، وكشف معضل ، وقضاء حاجة ، وعلى الفتح والهزيمة ، والغنى والفقر ، وجعل أحد ملكا أو وزيرا ، أو أميرا ، أو رئيسا ، أو على شفاء مريض ، أو إفاضة عافية لأحد ، أو سلب هذه الأمور من أحد ، أو إلقاء إيمان في قلب ، أو انتزاعه منه ، فهذا ليس بنقص فيهم ؛ لأن الناس جميعهم في هذه الأمور - سواء كانوا أكابر أو أصاغر - سواسية ، وكلهم عاجزون غير قادرين على شيء من ذلك.
وكذلك لا نقص فيهم على أن الله لم يمكنهم من علم الغيب حتى يعلموا حال القلب متى شاءوا ، وهل هو حي أم ميت ؟ أو في البلد الفلاني ، أو في الحال الفلاني ؟ وهل يولد له أم لا ؟ وهل يربح في التجارة أم لا ؟ وهل يغلب في المعركة ، أم يهزم ؟ فإن هذه الأمور يستوي فيها العباد العظماء والصغراء ، وكلهم عن ذلك غافلون ، وجاهلون .
فكما أن الناس جميعا قد يقولون شيئا بالعقل والقرينة ، فيوافق الواقع تارة ، ويخطئون فيه أخرى ، فهكذا ما يقوله هؤلاء الكبراء الفضلاء بعقلهم ، وبالقرائن قد يقع ، وقد لا يقع ، وقد يصح ، وقد يغلط ، فالحال واحد ، والشأن واحد . [ ص: 422 ]
اللهم إلا ما كان من طريق الوحي ، أو الإلهام الإلهي ، فهو أمر آخر . ولكن ليس ذلك أيضا في قدرتهم وإمكانهم حتى يشاء الله تعالى .