فلذا يجعلون الحب مراتب.
أوله: العلاقة 2 - ثم الصبابة 3 - ثم العزم 4 - ثم العشق 5 - وآخر ذلك التتيم، وهو التعبد للمعشوق، فيصير عبدا لمعشوقه.
والله سبحانه إنما حكى عشق الصور في القرآن عن المشركين، كما حكى عن امرأة العزيز، وعن قوم لوط، فقال: لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون [الحجر :72].
وأخبر بصرفه عن أهل الإخلاص، فقال في حق يوسف -عليه السلام-: كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين .
فالزنا بالفرج -وإن كان أعظم من الإلمام بالصغيرة كالنظر، والقبلة، واللمس- لكن إصرار العاشق على محبة الفعل، وتوابعه، ولوازمه، وتمنيه له، وحديث نفسه أنه لا يتركه، واشتغال قلبه بالمعشوق، قد يكون أعظم ضررا من فعل الفاحشة بشيء كثير.
وأيضا، فإنه قد يتخلص من الكبيرة بالتوبة، وأما العشق إذا تمكن فإنه يعز عليه التخلص منه كما قيل:
تالله ما أسرت لواحظك امرأ إلا وعز على الورى استنقاذه
ومعلوم أن هذا أعظم ضررا وفسادا من فاحشة يرتكبها مع كراهته لها، وقلبه غير متعبد لمن ارتكبها منه.وقد أخبر الله سبحانه: أن سلطان الشيطان إنما هو على الذين يتولونه والذين هم به مشركون.
[ ص: 390 ] وأن سلطانه إنما هو على من اتبعه من الغاوين، و«الغي»: اتباع الهوى والشهوات، كما أن «الضلال»: اتباع الظنون والشبهات.
وأصل «الغي» من الحب لغير الله، فإنه يضعف الإخلاص، ويقوي الشرك.
فأصحاب العشق الشيطاني لهم من تولي الشيطان والإشراك به بقدر ذلك؛ لما فيهم من الإشراك بالله، ولما فاتهم من الإخلاص له.
ففيهم نصيب من اتخاذ الأنداد؛ ولذا ترى كثيرا منهم عبدا لذلك المعشوق، متيما فيه، يصرخ في حضوره ومغيبه أنه عبده.
فهو أعظم ذكرا له من ربه، وحبه في قلبه أعظم من حب الله فيه.
فلو خير بين رضاه ورضا الله، لاختار رضا معشوقه على رضى ربه، ولقاء معشوقه أحب إليه من لقاء ربه، وتمنيه لقربه أعظم من تمنيه لقرب ربه، وهربه من سخطه عليه أشد من هربه من سخط ربه عليه، ويقدم مصالح معشوقه وحوائجه على طاعات ربه.
فإن فضل من وقته فضلة، وكان عنده قليل من الإيمان صرف تلك الفضلة في طاعة ربه، وإن استغرق الزمان حوائج معشوقه ومصالحه، صرف زمانه كله فيها، وأهمل أمر الله.
ولا ريب في أن هؤلاء من الذين اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله.
وعشقهم يجمع المحرمات الأربع من الفواحش الظاهرة والباطنة، والإثم والبغي بغير الحق، والشرك بالله ما لم ينزل به سلطانا، والقول على الله ما لم يعلم.
فكثيرا ما يوجد في هذا العشق من الشرك الأكبر والأصغر، ومن قتل النفوس تغايرا على المعشوق، وأخذ أموال الناس بالباطل ليصرفها في رضا المعشوق، ومن الكذب والظلم ما لا خفاء به.
[ ص: 391 ] وأصل ذلك كله من خلو القلب من محبة الله، والإخلاص له، ومن التشريك بينه وبين غيره في المحبة، ومن محبة ما يجب لغير الله، فيقوم ذلك بالقلب، ويعمل بموجبه بالجوارح، وهذا هو حقيقة اتباع الهوى، قال بعض العلماء: ليس شيء من المحبوبات يستوعب القلب إلا محبة الله، أو محبة بشر مثلك.
أما محبة الله: فهي التي خلق لها العباد، وبها غاية سعادتهم، وكمال نعيمهم.
وأما البشر المماثل من ذكر أو أنثى، فإن فيه من المشاكلة والمناسبة بين العاشق وبينه ما ليس مثله بينه وبين جنس آخر من المخلوقات.