فصل في بيان كيد الشيطان نفسه قبل كيده للأبوين
ثم لم يقتصر على ذلك حتى كاد ذرية نفسه، وذرية آدم.
فكان مشؤوما على نفسه وعلى ذريته وأوليائه، وأهل طاعته من الجن والإنس.
أما كيده لنفسه، فإن الله سبحانه لما أمره بالسجود لآدم، كان في امتثال أمره وطاعته سعادته وفلاحه.
فسولت له نفسه أن في سجوده لآدم غضاضة عليه وهضما؛ إذ يخضع ويقع ساجدا لمن خلق من طين، وهو مخلوق من نار، والنار -بزعمه- أشرف من الطين، وقارن ذلك حسده لآدم على ما خصه الله به من أنواع الكرامة؛ فإنه خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، وميزه بذلك عن الملائكة، وأسكنه جنته.
وكان عدو الله يطيف به وهو صلصال كالفخار، فيعجب منه، ويقول: لأمر عظيم قد خلق هذا، ولئن سلط علي لأعصينه، ولئن سلطت عليه لأهلكنه.
فلما تم خلق آدم في أحسن تقويم وأجمل صورة، وكملت محاسنه الباطنة بالعلم والحلم والوقار، وتولى الله سبحانه خلقه بيده، فجاء في أحسن خلق وأتم صورة، طوله في السماء ستون ذراعا، قد ألبس رداء الجمال والحسن والمهابة والبهاء، فرأت الملائكة منظرا لم يشاهدوا أحسن منه ولا أجمل، فوقعوا سجودا له بأمر ربهم -تبارك وتعالى- فشق الحسود قميصه من دبر، واشتعلت في قلبه نيران الحسد، فعارض النص بالمعقول -بزعمه- كفعل أوليائه من المبطلين، وقال:
[ ص: 410 ] أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين [الأعراف: 12] اعتراضا على حكمة ربه، وامتنع من السجود.
فجمع بين الجهل والظلم، والكبر والحسد، والمعصية ومعارضة النص بالرأي والعقل.
فأهان نفسه كل الإهانة من حيث أراد تعظيمها، ووضعها من حيث أراد رفعتها، وأذلها من حيث أراد عزها، ففعل بنفسه ما لو اجتهد أعظم أعدائه في مضرته لم يبلغ منه ذلك المبلغ.
ومن كان هذا غشه لنفسه، فكيف يسمع منه العاقل ويقبل، أو يواليه؟ قال تعالى: وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا [الكهف: 50].