الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وشدد الوعيد على المقصرين فيها فقال: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم}

التالي السابق


(وشدد الوعيد على المقصرين فيها) أي: في إيتائها، والوعيد يستعمل في الشر خاصة، وقد أوعد إيعادا، كما أن الوعد يستعمل في الخير خاصة، وإليه يشير قول الشاعر:

وإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

(فقال تعالى: والذين يكنزون ) أي: يجمعون ويخزنون ( الذهب والفضة ) سواء كانا في باطن الأرض أو ظاهرها، ( ولا ينفقونها ) الضمير للكنوز الدال عليها يكنزون أو للأموال، فإن الحكم عام وتخصيصهما بالذكر؛ لأنهما قانون التمول، أو للفضة لأنها أقرب، ويدل أن حكم الذهب كذلك بطريق الأولى ( في سبيل الله ) المراد به المعنى الأعظم لا خصوص أحد السهام الثمانية، وإلا ترجح بالصرف إليه بمقتضى هذه الآية ( فبشرهم بعذاب أليم ) هذا من باب التهكم والعذاب، مجمل بينه بقوله: يوم يحمى عليها في نار جهنم الآية .

والكنز لغة جمع المال بعضه على بعض وادخاره، وقيل: المال المدفون، وقد صار في الشرع صفة لكل مال لم يخرج منه الواجب وإن لم يكن مدفونا، هذا حاصل ما قاله أئمة اللغة، ففي النهاية: هو في الأصل المال المدفون تحت الأرض، فإذا خرج منه الواجب لم يبق كنزا وإن كان مكنوزا. قال: وهو حكم شرعي تجوز فيه عن الأصل، وقال ابن عبد البر: أما قوله تعالى: والذين يكنزون الذهب والفضة وما في معناه، فالجمهور على أنه ما لم تؤد زكاته، وعليه جماعة فقهاء الأمصار، ثم ذكر ذلك عن عمر وابنه عبد الله وجابر بن عبد الله وابن مسعود وابن عباس، ثم استشهد لذلك بما رواه عن أم سلمة قالت: كنت ألبس أوضاحا من ذهب، فقلت: يا رسول الله، أكنز هو؟ قال: ما بلغ أن تؤدى زكاته فزكي فليس بكنز، قال: وفي إسناده مقال، قال الولي العراقي: قد أخرجه أبو داود، وقال والده في شرح الترمذي: إسناده جيد، رجاله رجال البخاري.

قلت: يشير إلى أن في إسناده عتاب بن بشير أبا الحسن الحراني، وقد أخرج له البخاري وتكلم فيه غير واحد، ثم قال ابن عبد البر: ويشهد بصحته حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أديت زكاة المال فقد قضيت ما عليك) .

قال الولي العراقي: رواه الترمذي، وقال: حسن غريب، والحاكم في مستدركه، وقال: صحيح من حديث المصريين، وفي معناه أيضا حديث جابر مرفوعا: إذا أديت [ ص: 8 ] زكاة مالك فقد أذهبت عنك شره .

رواه الحاكم في مستدركه وصححه على شرط مسلم، ورجح البيهقي وقفه على جابر، وكذلك ذكره ابن عبد البر، كذا صحح أبو زرعة وقفه على جابر. ذكره بلفظ: ما أدي زكاته فليس بكنز.

قلت: وهكذا أخرجه ابن أبي شيبة عن أبي خالد الأحمر عن حجاج عن ابن الزبير عن جابر موقوفا عليه، ورواه عن مكحول عن ابن عمر مثله، ورواه عن عكرمة عن ابن عباس مثله، وعن حنظلة عن عطاء ومجاهد قال: ليس مال بكنز أدي زكاته وإن كان تحت الأرض، وإن كان لا يؤدى زكاته فهو كنز وإن كان على وجه الأرض.

وروى البيهقي عن ابن عمر مرفوعا مثل قول عطاء ومجاهد، قال البيهقي: ليس بمحفوظ، والمشهور وقفه، وفي سنن أبي داود عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: والذين يكنزون الذهب والفضة قال: كبر ذلك على المسلمين، فقال عمر: إذا أفرج عنكم؛ فانطلق فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا نبي الله، كبر على أصحابنا هذه الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم. الحديث .

قال ابن عبد البر: والاسم الشرعي قاض على الاسم اللغوي، وما أعلم مخالفا في أن الكنز ما لم تؤد زكاته إلا شيئا روي عن علي وأبي ذر والضحاك: ذهب إليه قوم من أهل الزهد قالوا: إن في المال حقوقا سوى الزكاة، أما أبو ذر فذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت وسواد العيش فهو كنز، وأن آية الوعيد نزلت في ذلك، وأما علي فروي عنه أنه قال: أربعة آلاف نفقة، فما كان فوقها فهو كنز.

وأما الضحاك فقال: من ملك عشرة آلاف درهم فهو من الأكثرين، وكان مسروق يقول في قوله عز وجل: سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة هو الرجل يرزقه الله المال فيمنع الحق الذي فيه، فيجعل حية يطوقها، قلت: وممن قال: إن في المال حقا سوى الزكاة إبراهيم النخعي ومجاهد والشعبي والحسن البصري، روى عنهم ذلك أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف .

وأما ما رواه عن مسروق أخرجه ابن أبي شيبة عن خالد بن خليفة عن أبي هاشم عن أبي وائل عن مسروق بلفظ: هو الرجل يرزقه الله المال فيمنع قرابته الحق الذي فيه، فيجعل حية يطوقها، فيقول: ما لي وما لك؟ فتقول الحية: أنا مالك!

وروي من وجه آخر عن إبراهيم النخعي قال في تفسير هذه الآية: طوق من نار، وروي عن ابن مسعود قال: يطوقون ثعبانا، بفيه زبيبتان ينهشه، يقول: أنا مالك الذي بخلت به، قال ابن عبد البر بعد أن نقل قول مسروق السابق: وهذا ظاهره غير الزكاة، ويحتمل أنها الزكاة. ثم قال: وسائر العلماء من السلف والخلف على ما تقدم في الكنز، قال: وما استدل به من الأمر بإنفاق الفضل، فمعناه أنه على الندب أو يكون قبل نزول فرض الزكاة، ونسخ بها كما نسخ صوم عاشوراء برمضان، وعاد فضيلة بعد أن كان فريضة. اهـ .

قلت: وإذا حملت الآية على ما قال المصنف في تفسيرها .




الخدمات العلمية