الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والمقصود إن للتوبة ثمرتين إحداهما تكفير السيئات حتى يصير كمن لا ذنب له والثانية نيل الدرجات حتى يصير حبيبا وللتكفير أيضا درجات فبعضه محو لأصل الذنب بالكلية ، وبعضه تخفيف له ، ويتفاوت ذلك بتفاوت درجات التوبة ; فالاستغفار بالقلب ، والتدارك بالحسنات ، وإن خلا عن حل عقدة الإصرار من أوائل الدرجات ، فليس يخلو عن الفائدة أصلا ، فلا ينبغي أن تظن أن وجودها كعدمها ، بل عرف أهل المشاهدة وأرباب القلوب معرفة لا ريب فيها أن قول الله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره صدق ، وأنه لا تخلو ذرة من الخير عن أثر ، كما لا تخلو شعيرة تطرح في الميزان عن أثر ، ولو خلت الشعيرة الأولى عن أثر لكانت الثانية مثلها ، ولكان لا يرجح الميزان بأحمال الذرات ، وذلك بالضرورة محال ، بل ميزان الحسنات يرجح بذرات الخير إلى أن يثقل فترفع ، كفة السيئات ، فإياك أن تستصغر ذرات الطاعات فلا تأتيها وذرات المعاصي فلا تنفيها كالمرأة الخرقاء تكسل عن الغزل تعللا بأنها لا تقدر في كل ساعة إلا على خيط واحد ، وتقول : أي غني يحصل بخيط ، وما وقع ذلك في الثياب ولا تدري المعتوهة أن ثياب الدنيا اجتمعت خيطا خيطا ، وأن أجسام العالم مع اتساع أقطاره اجتمعت ذرة . فإذن التضرع والاستغفار بالقلب حسنة لا تضيع عند الله أصلا بل أقول الاستغفار باللسان أيضا حسنة ، إذ حركة اللسان بها عن غفلة خير من حركة اللسان في تلك الساعة بغيبة مسلم ، أو فضول كلام ، بل هو خير من السكوت عنه فيظهر فضله بالإضافة إلى السكوت عنه ، وإنما يكون نقصانا بالإضافة إلى عمل القلب ; ولذلك قال بعضهم لشيخه أبي عثمان المغربي إن لساني في بعض الأحوال يجري بالذكر والقرآن ، وقلبي غافل فقال : اشكر الله إذ استعمل جارحة من جوارحك في الخير ، وعوده الذكر ، ولم يستعمله في الشر ، ولم يعوده الفضول ، وما ذكره حق فإن تعود الجوارح للخير حتى يصير لها ذلك كالطبع يدفع جملة من المعاصي ، فمن تعود لسانه الاستغفار إذا سمع من غيره كذبا ، سبق لسانه إلى ما تعود فقال : أستغفر الله ، ومن تعود الفضول سبق لسانه إلى قول : ما أحمقك ، وما أقبح كذبك ، ومن تعود الاستعاذة إذا حدث بظهور مبادئ الشر من شرير قال بحكم سبق اللسان : نعوذ بالله وإذا تعود الفضول قال : لعنه الله فيعصي في إحدى الكلمتين ، ويسلم في الأخرى ، وسلامته أثر اعتياد لسانه الخير ، وهو من جملة معاني قوله تعالى: إن الله لا يضيع أجر المحسنين ، ومعاني قوله تعالى : وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما فانظر كيف ضاعفها إذ جعل الاستغفار في الغفلة عادة اللسان حتى دفع بتلك العادة شر العصيان بالغيبة واللعن والفضول ، هذا تضعيف في الدنيا لأدنى الطاعات ، وتضعيف الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون فإياك وأن تلمح في الطاعات مجرد الآفات ، فتفتر رغبتك عن العبادات ، فإن هذه مكيدة روجها الشيطان بلعنته على المغرورين وخيل إليهم أنهم أرباب البصائر ، وأهل التفطن للخفايا والسرائر ، فأي خير في ذكرنا باللسان مع غفلة القلب فانقسم الخلق في هذه المكيدة إلى ثلاثة أقسام : ظالم لنفسه ، ومقتصد ، وسابق بالخيرات ; أما السابق فقال : صدقت يا ملعون ، ولكن هي كلمة حق أردت بها باطلا فلا جرم ، أعذبك مرتين ، وأرغم أنفك من وجهين فأضيف إلى حركة اللسان حركة القلب فكان كالذي داوى جرح الشيطان بنثر الملح عليه .

التالي السابق


(والمقصود أن للتوبة ثمرتين إحداهما تكفر السيئات حتى يصير كمن لا ذنب له) ، وإليه الإشارة في الخبر: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له". (والثانية نيل الدرجات حتى يصير حبيبا) ، وإليه الإشارة في الخبر: التائب حبيب الله.

(وللتكفير أيضا درجات فبعضه محو لأصل الذنب بالكلية، وبعضه تخفيف له، ويتفاوت ذلك بتفاوت درجات التوبة; فالاستغفار بالقلب، والتدارك بالحسنات، وإن خلا عن حل عقدة الإصرار في أوائل الدرجات، فليس يخلو عن الفائدة أصلا، فلا ينبغي أن تظن وجودها كعدمها، بل عرف أهل المشاهدة) بعجائب عالم الملكوت، (وأرباب القلوب) والبصائر (معرفة لا ريب فيها) ، ولا تردد (أن قول الله تعالى: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) حق (وصدق، وأنه لا تخلو ذرات من الخير عن أثر، كما لا تخلو شعيرة تطرح في الميزان عن أثر، ولو خلت الشعيرة الأولى عن أثر لكانت الثانية مثلها، ولكان لا يرجح الميزان بأحمال الذرات، وذلك بالضرورة محال، بل ميزان الحسنات يرجح بذرات الخيرات) إذا جمعت إلى بعضها (إلى أن يثقل، فتشيل كفة السيئات، فإياك أن تستصغر ذرات الطاعات) وتستحقرها، (فلا تأتيها) ، تستصغر ذرات (المعاصي فلا تتقيها فتكون كالمرأة الخرقاء) ، وهي التي إذا عملت في شيء لم ترفق فيه (تكسل عن الخيط تعللا بأنها لا تقدر في كل ساعة إلا على خيط واحد، وتقول: أي غنى يحصل بخيط، وما وقع ذلك في الثياب) أي: ما قدره، (ولا تدري المعتوهة أن ثياب الدنيا كلها إنما اجتمعت خيطا خيطا، وأن أجسام العالم مع اتساع أقطاره) إنما (اجتمعت ذرة ذرة. فإذن التضرع والاستغفار بالقلب حسنة لا تضيع عند الله [ ص: 607 ] أصلا) ، بل هي محسوبة في ميزان الحسنات، (بل أقول) : إن (الاستغفار باللسان أيضا حسنة، إذ حركة اللسان بها عن غفلة) من حضور القلب (خير من حركة اللسان في تلك الساعة بغيبة مسلم، أو فضول كلام، بل هو خير من السكوت عنه فيظهر فضله بالإضافة إلى السكوت عنه، وإنما يكون نقصا بالإضافة إلى عمل القلب; ولذلك قال بعضهم لشيخه أبي عثمان) سعيد بن سلام (المغربي) ، قال القشيري في الرسالة: واحد عصره لم يوصف مثله قبله، صحب ابن الكاتب، وأبا عمرو، والزجاجي، ولقي النهرجوري، وابن الصائغ، وغيرهم مات بنيسابور سنة 323، وأوصى أن يصلي عليه الإمام أبو بكر بن فورك رحمه الله تعالى: (إن لساني في بعض الأحوال) ، وفي نسخة: الأوقات (يجري بالذكر والقرآن، وقلبي غافل فقال: اشكر الله) تعالى (إذا استعمل جارحة من جوارحك في الخير، وعوده الذكر، ولم يستعمله في الشر، ولم يعوده الفضول، وما ذكره حق) لا مرية فيه; (فإن تعود الجوارح للخيرات حتى يصير لها ذلك كالطبع) اللازم (يدفع جملة من المعاصي، فمن تعود لسانه الاستغفار إذا سمع من غيره كذبا، سبق لسانه إلى ما تعوده فقال: أستغفر الله، ومن تعود الفضول سبق لسانه أن يقول: ما أحمقك، وما أقبح كذبك، ومن تعود الاستعاذة إذا حدث) أي: أخبر (بظهور مبادئ الشر من شرير قال بحكم سبق اللسان: نعوذ بالله) ، أو عياذا بالله، أو العياذ بالله، (وإذا تعود الفضول قال: لعنه الله) ، أو قبحه الله، أو قاتله الله (فيعصي في إحدى الكلمتين، ويسلم في الأخرى، وسلامته إثر اعتياد لسانه الخير، وهو من جملة معاني قوله تعالى: وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما فانظر كيف ضاعفها إذ جعل الاستغفار في الغفلة عادة اللسان حتى دفع بتلك العادة شر العصيان بالغيبة واللعن والفضول، هذا تضعيف في الدنيا لأدنى تضعيف الطاعات، وتضعيف الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون) قال تعالى: وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا (فإياك وأن تلمح في الطاعات مجرد الآفات، فتفتر رغبتك) أي: تضعف (في العبادات، فإن هذه مكيدة روجها) أي: زينها الشيطان، (بلعنته) أي: طرده عن حضرة القرب (على المغرورين) ، والحمقى (وخيل إليهم) بأن ألقى في أذهانهم (أنهم أرباب البصائر، وأهل التفطن للخفايا والسرائر، فأي خير في ذكرنا باللسان مع غفلة القلب) ، وقد تتمكن فيهم هذه الوسوسة (فانقسم الخلق في هذه المكيدة إلى ثلاثة أقسام: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات; أما السابق فقال: صدقت يا ملعون، ولكن هي كلمة حق أردت بها باطلا) ، وهو تفويته عن الخير، (فلا جرم، أعذبك مرتين، وأرغم أنفك) أي: ألصقها بالرغام وهو التراب (من وجهين فأضيف إلى حركة اللسان حركة القلب) فيتوافقان (فكان كالذي داوى جرح الشيطان بنثر الملح عليه) ، بل كان كمن أراد أن يصطاد فاصطيد .




الخدمات العلمية