الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الصنف الرابع : المؤلفة قلوبهم .

على الإسلام وهم الأشراف الذين أسلموا وهم مطاعون في قومهم وفي إعطائهم تقريرهم على ،
الإسلام وترغيب نظائرهم وأتباعهم .

التالي السابق


ثم قال المصنف رحمه الله: (الصنف الرابع: المؤلفة قلوبهم على الإسلام، وهو الشريف) أي: الرئيس وليس المراد به أن يكون ممن ينسب إلى البضعة الطاهرة، فإن هذا عرف طارئ؛ ولذا قال: (الذي أسلم وهو مطاع في قومه) أي: يطيعه قومه فيأتمرون لأمره وينتهون عند وقوفه، (وفي إعطائه) الصدقة (تقريره على الإسلام) وإثباته عليه (و) قد يكون ذلك الإعطاء لأجل (ترغيب نظائره وأتباعه) إلى الإسلام، وفي نسخة: وهم أشراف قوم قد أسلموا وهم مطاعون في قومهم، وفي إعطائهم تقريرهم على الإسلام وترغيب نظرائهم وأتباعهم، قال في الروضة: المؤلفة قلوبهم ضربان: كفار ومسلمون، فالكفار قسمان: قسم يميلون إلى الإسلام ويرغبون فيه بإعطاء مال، وقسم يخاف شرهم فيتألفون لدفع شرهم، فلا يعطى القسمان من الزكاة قطعا ولا من غيرها على الأظهر، وفي قول: يعطون من خمس الخمس، وأشار بعضهم إلى أنه لا يعطون إلا أن ينزل بالمسلمين نازلة، وأما مؤلفة المسلمين فأصناف: صنف دخلوا في الإسلام ونيتهم ضعيفة فيتألفون ليثبتوا، وآخرون لهم شرف في قومهم، يطلب بتألفهم إسلام نظائرهم، وفي هذين الصنفين ثلاثة أقوال: أحدهم لا يعطون، والثاني يعطون من سهم المصالح، والثالث من الزكاة. وصنف يراد بتألفهم أن يجاهدوا من يليهم من الكفار أو من مانع الزكاة ويقبضوا زكاتهم، فهؤلاء يعطون قطعا، ومن أين يعطون؟ فيه أقوال، أحدها من خمس الخمس، والثاني من سهم المؤلفة، والثالث من سهم الغزاة، والرابع قال الشافعي رحمه الله: يعطون من سهم المؤلفة وسهم الغزاة، فقال طائفة من الأصحاب على هذا الرابع: يجمع بين السهمين للشخص الواحد، وقال بعضهم: المراد إن كان التألف لقتال الكفار فمن سهم الغزاة، وإن كان لقتال مانعي الزكاة فمن سهم المؤلفة، وقال آخرون: معناه يتخير الإمام لمن شاء من ذي السهم وإن كان من ذاك، وربما قيل: إن شاء جمع السهمين، وحكي وجه: أن المتألف لقتال مانعي الزكاة وجمعها يعطى من سهم العاملين، وأما الأظهر من هذا الخلاف في الأصناف فلم يتعرض له الأكثرون بل أرسلوا الخلاف، وقال الشيخ أبو حامد في طائفة: الأظهر من القولين في الصنفين الأولين أنهم لا يعطون، وقياس هذا أن لا يعطى الصنفان الآخران من الزكاة؛ لأن الأولين أحق باسم المؤلفة من الآخرين؛ لأن في الآخرين معنى الغزاة العاملين، وعلى هذا فيسقط سهم المؤلفة بالكلية، وقد صار إليه من المتأخرين الروياني وجماعة، لكن الموافق لظاهر الآية ثم لسياق الشافعي والأصحاب إثبات سهم المؤلفة، وأنه يستحقه الصنفان، وأنه يجوز صرفه إلى الآخرين أيضا، وبه أفتى أقضى القضاة الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية. اهـ .

وحاصل هذا الكلام أن هذا الصنف إما كفار أو مسلمون، والكفار إما يرجى خيرهم أو يكفى شرهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم، فهل يعطون بعده؟ على قولين: أحدهما: نعم، والمسلمون على أربعة أضرب: شرفاء يعطون ليرغب نظراؤهم في الإسلام، وآخرون لتتقوى نياتهم على الإسلام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم، فهل يعطون بعده؟ قولان: أحدهما: لا، والثاني: نعم، وعلى هذا فمن أين يعطون؟ قولان: أحدهما: من الزكاة، والثاني: من خمس الخمس، والضرب الثالث: قوم مسلمون يليهم قوم من الكفار إن أعطوا قاتلوهم، وقوم يليهم قوم من أهل الصدقات إن أعطوا أوجبوا الصدقات، فعنه فيه أربعة أقوال [ ص: 146 ] أحدها: يعطون من سهم المصالح، والثاني: من سهم المؤلفة، والثالث: من سهم الغزاة من الزكاة، والرابع: وهو الذي عليه أصحابه أنه من السهمين؛ الغزاة والمؤلفة .



(فصل)

وقال أحمد: حكم المؤلفة باق لم ينسخ، ومتى وجد الإمام قوما من المشركين يخاف الضرر منهم، ويعلم بإسلامهم مصلحة جاز أن يتألفهم بمال الزكاة، وعنه رواية أخرى حكمهم منسوخ، وهو مذهب أبي حنيفة، وقال مالك: لم يبق للمؤلفة سهم لغنى المسلمين عنهم، هذا هو المشهور عنه، وعنه رواية أخرى: أنهم إن احتاج إليهم بلد من البلدان أو ثغر من الثغور استألفهم الإمام؛ لوجود العلة. هذا على وجه الإجمال، وقد روى ابن جرير في تفسيره بإسناده إلى يحيى بن أبي كثير قال: المؤلفة قلوبهم جماعة من عدة قبائل، ثم عدهم ثم قال: أعطى النبي صلى الله عليه وسلم كل رجل منهم مائة ناقة إلا عبد الرحمن بن يربوع وحويطب بن عبد العزى، فإنه أعطى لكل رجل منهم خمسين، وأسند أيضا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين جاءه عيينة بن الحصن: الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر يعني ليس اليوم مؤلفة .

وأخرج ابن أبي شيبة عن الشعبي: إنما كانت المؤلفة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ولي أبو بكر انقطعت، وفي شرح الكنز: هم أصناف ثلاثة، كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤلفهم على الإسلام لإعلاء كلمة الله، فكان يعطيهم كثيرا، حتى أعطى أبا سفيان وصفوان والأقرع وعيينة وعباس بن مرداس، كل واحد منهم مائة من الإبل، وقال صفوان: لقد أعطاني ما أعطاني وهو أبغض الناس إلي، فما زال يعطيني حتى صار أحب الناس إلي، ثم في أيام أبي بكر جاء عيينة والأقرع يطلبان أرضا، فكتب لهما بها، فجاء عمر فمزق الكتاب، وقال: إن الله أعز الإسلام وأغنى عنكم، فإن تبتم عليه وإلا فبيننا وبينكم السيف، فانصرفا إلى أبي بكر وقالا: أنت الخليفة أم هو؟ فقال: هو إن شاء ولم ينكر عليه ما فعل، فانعقد الإجماع عليه. اهـ .

وقال صاحب النهاية: النسخ بالإجماع جوزه بعض مشايخنا باعتبار أن الإجماع موجب على اليقين كالنص، فيجوز أن يثبت النسخ به، والإجماع في كونه حجة أقوى من الخبر المشهور، فإن كان يجوز النسخ بالخبر المشهور بالزيادة، فبالإجماع أولى، وأما اشتراط حياة النبي صلى الله عليه وسلم في حق جواز النسخ فجائز أن لا يكون مشروطا على قول ذلك البعض الذي يرى أن النسخ بالمتواتر والمشهور بطريق الزيادة جائز، ولا يتصور النسخ بالمتواتر والمشهور إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما أنه إنما عرف التفرقة بين المتواتر والمشهور والآحاد بهذه الأسامي إلا في القرن الثاني والثالث، فتأمل، والحاصل أنه اختلف أئمتنا في وجه سقوط هذا الصنف بعد النبي صلى الله عليه وسلم بعد ثبوته بالكتاب إلى حين وفاته صلى الله عليه وسلم، فمنهم من ارتكب النسخ وإليه مال صاحب النهاية، ورجحه شارح المختار، والناسخ هنا هل هو الإجماع أو دليل الإجماع؟ أظهرهما: الثاني؛ بناء على أنه لا إجماع إلا عن مستند بدليل إفادة تقيد الحكم بحياته صلى الله عليه وسلم، وهو موافقة الصديق وسائر الصحابة لعمر في ذلك، دلت على أنهم كانوا عالمين بما هنالك، والآية التي قرأها عمر وتقدم ذكرها تصلح أن تكون دليل الإجماع، وكذا حديث معاذ لما بعثه إلى اليمن؛ لأنه كان آخر الأمر منه صلى الله عليه وسلم، ومنهم من قال: هو من قبيل انتهاء الحكم بانتهاء علته، وقد اتفق انتهاؤها بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، والمراد بالعلة الغائبة أو الدفع لهم هو العلة للإعزاز لما أنه يحصل به، فانتهى ترتيب الحكم، وهو الإعزاز على الدفع الذي هو علته؛ لأن الله تعالى أعز الإسلام وأغنى عنهم، وعن هذا قال صاحب الغاية: عدم الدفع لهم الآن تقرير لما كان في زمنه صلى الله عليه وسلم لا نسخ؛ لأنه كان للإعزاز، وهو الآن في عدمه، وتعقبه الشيخ ابن الهمام في فتح القدير أن هذا لا ينفي النسخ لأن إباحة الدفع حكم شرعي كان ثابتا وقد ارتفع، وغاية الأمر أنه نسخ بزوال علته. اهـ .

وقال صاحب الكشف: سقوطهم تقرير لما كان في زمنه صلى الله عليه وسلم من حيث المعنى؛ لأن الدفع إليهم في ذلك الوقت كان إعزازا لأهل الإسلام لكثرة أهل الكفر، والإعزاز بعد ذلك في عدم الدفع لكثرة أهل الإسلام، ونظير ذلك العاقلة في زمنه صلى الله عليه وسلم [ ص: 147 ] كانت العشيرة وبعده أهل الديوان؛ لأن الوجوب على العاقلة بسبب النصرة، والنصرة في زمنه بالعشيرة وبعده بالديوان، والله أعلم .



(فصل)

اعتبار المؤلفة قلوبهم هم الذين تألفهم الإحسان على حب المحسن، فإن القلوب تتغلب فتألفها هو أن تتغلب في جميع الأمور كما تعطى حقائقهم، ولكن لعين واحدة، وهو عين الله، فهذا تألفها عليه لا تملكها عيون متفرقة لتفرق الأمور التي تتقلب فيها، فإن الجداول إذا كانت ترجع إلى عين واحدة فينبغي مراعاة تلك العين، والتألف بها فإنه إن أخذته الغفلة عنها ومسكت تلك العين ماءها لم تنفعه تلك الجداول بل يبست وذهب عنها، وإذا راعى العين وتألف بها تبحرت جداوله واتسعت مذانبه .




الخدمات العلمية