الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ولو كان عليه دين يستغرق ماله فلا زكاة عليه ، فإنه ليس غنيا به ؛ إذ الغنى ما يفضل عن الحاجة .

التالي السابق


(ولو كان عليه دين مستغرق لماله فلا زكاة عليه، فإنه ليس غنيا به؛ إذ الغنى ما يفضل عن الحاجة) ، وهو القول القديم للشافعي وبه قال أبو حنيفة.

وعبارة المصنف في الوجيز: وإذا استقرض المفلس مائتي درهم ففي زكاته قولان: وجه المنع لضعف الملك بتسلط مستحق الدين عليه، وقد يعلل بأدائه إلى تثنية الزكاة إذ تجب على المستحق باعتبار يساره بهذا المال، وعلى هذا إن كان المستحق لا يلزمه الزكاة بكونه مكاتبا أو بكون الدين حيوانا أو ناقصا عن النصاب وجبت الزكاة على المستقرض، وإن كان المستقرض غنيا بالعقار وغيره لم يمتنع وجوب الزكاة بالدين .

وقيل: الدين لا يمنع الزكاة إلا في الأموال الباطنة ا ه .

وقد فصله النووي في الروضة، فقال: الدين الثابت على الغير له أحوال؛ أحدها أن لا يكون لازما كمال الكتابة فلا زكاة فيه، الثاني: أن يكون لازما، وهو ماشية فلا زكاة أيضا، الثالث: أن يكون دراهم أو دنانير أو عروض تجارة، فقولان: القديم: لا زكاة في الدين بمال، والجديد وهو المذهب الصحيح المشهور: وجوبها في الدين على الجملة، وتفصيله أنه إن تعذر الاستيفاء لإعسار من عليه أو جحوده ولا بينة أو مطله أو غيبته فهو كالمغصوب تجب الزكاة على المذهب، وقيل: تجب في الممطول وفي الدين على مليء غائب قطعا، ولا يجب الإخراج قبل حصوله قطعا وإن لم يتعذر [ ص: 20 ] استيفاؤه بأن كان على مليء باذل أو جاحد عليه بينة أو يعلمه القاضي، وقلنا: يقضي بعلمه، فإن كان حالا وجبت الزكاة ولزم إخراجها في الحال، وإن كان مؤجلا فالمذهب أنه على القولين في المغصوب، وقيل: تجب الزكاة قطعا، وقيل: لا تجب قطعا، فإن أوجبناها لم يجب الإخراج حتى يقضيه على الأصح، وعلى الثاني يجب في الحال .



(تنبيه)

حاصل الدين في أنه هل يمنع وجوب الزكاة أو لا؟ فيه ثلاثة أقوال؛ أظهرها: وهو المذهب والمنصوص في أكثر الكتب الجديدة: لا يمنع، والثاني: يمنع. قاله في القديم واختلاف العراقيين، والثالث: يمنع في الأموال الباطنة؛ وهي الذهب والفضة وعروض التجارة، ولا يمنع في الظاهرة وهي الماشية والزرع والتمر والمعدن؛ لأن هذه نامية بنفسها، وهذا الخلاف جار سواء كان الدين حالا أو مؤجلا وسواء كان من جنس المال أم لا، هذا هو المذهب .

وقيل: إن قلنا: يمنع منذ اتحاد الجنس، فعند اختلافه وجهان؛ فإذا قلنا: الدين يمنع، فأحاطت بالرجل ديون وحجر القاضي فله ثلاثة أحوال؛ أحدها: يحجر ويفرق ماله بين الغرماء فيزول ملكه ولا زكاة، والثاني: أن يعين لكل غريم شيء من ملكه ويمكنهم من أخذه، فحال الحول قبل أخذهم، فالمذهب الذي قطع به الجمهور لا زكاة عليه أيضا؛ لضعف ملكه، وقيل: فيه خلاف المغصوب .

الثالث: أن لا يفرق ماله ولا يعين لكل واحد شيئا ويحول الحول في دوام الحجر، ففي وجوب الزكاة ثلاثة طرق أصحها أنه على الخلاف في المغصوب، والثاني: القطع بالوجوب، والثالث: القطع به في المواشي؛ لأن الحجر لا يؤثر في نمائها، وأما الذهب والفضة فعلى الخلاف؛ لأن نماءها بالتصرف، وهو ممنوع منه، وإذا قلنا: الدين يمنع الزكاة ففي علته وجهان؛ أصحهما: ضعف ملك المديون، والثاني: أن مستحق الدين تلزمه الزكاة، فلو أوجبناها على المديون أيضا أدى إلى تثنية الزكاة في المال الواحد، وتتفرع على الوجهين مسائل: إحداها لو كان مستحق الدين ممن لا زكاة عليه كالذمي فعلى الوجه الأول لا تجب وعلى الثاني تجب الثانية، لو كان الدين حيوانا بات ملك أربعين شاة سائمة، وعليه أربعون سلما، فعلى الوجه الأول لا تجب وعلى الثاني تجب، ومثله لو أنبت أرضه نصابا من الحنطة وعليه مثله سلما، الثالثة: لو ملك نصابا والدين الذي عليه دون نصاب، فعلى الأول لا زكاة عليه، وعلى الثاني تجب، ولو ملك بقدر الدين مما لا زكاة فيه كالعقار وغيره وجبت الزكاة في النصاب الزكوي على هذا القول أيضا على المذهب، وقيل: لا تجب بناء على التثنية، ولو زاد المال الزكوي على الدين فإن كان الفاضل نصابا وجبت الزكاة فيه، وفي الباقي القولان، وإلا لم تجب على هذا القول في قدر الدين ولا في الفاضل .



(فصل)

قال الزيلعي من أصحابنا: شرط وجوب الزكاة الفراغ عن الدين كالفراغ عن الحاجة الأصلية، وهو قول عثمان وابن عباس وابن عمر، وكان عثمان يقول: هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤد دينه، حتى تحصل أمواله فيؤدي منها الزكاة بمحضر من الصحابة من غير نكير، فكان إجماعا، ولأن الزكاة تجب على الغني لإغناء الفقير، ولا يتحقق الغنى بالمال المستقرض ما لم يقبضه، ولأن ملكه ناقص؛ حيث كان للغريم أن يأخذه إذا ظفر بجنس حقه، فصار كمال المكاتب، ولا يلزم على هذا الموهوب له حيث تجب عليه الزكاة، وإن كان للواهب أن يرجع فيه؛ لأنه ليس له أن يأخذه إلا بقضاء القاضي أو برضا الموهوب له، فلا يصح رجوعه بدونهما .

وفيما قاله الشافعي رضي الله عنه أن في القول الجديد يلزم تزكية مال في سنة واحدة مرارا، بأن كان لرجل عبد يساوي ألفا، فباعه من آخر بدين، ثم باعه الآخر كذلك، حتى تداولته عشرة أنفس مثلا، فحال عليه الحول تجب على كل واحد منهم زكاة ألف، والمال في الحقيقة واحد حتى لو فسخت البياعات بعيب رجع إلى الأول ولم يبق لهم شيء، ولا فرق في الدين بين المؤجل والحال، والمراد بالدين دين له مطالب من جهة العباد، حتى لا يمنع دين النذور والكفارة، ودين الزكاة مانع حال بقاء النصاب؛ لأنه ينقص به النصاب، وكذا بعد الاستهلاك خلافا لزفر فيهما ولأبي يوسف في الثاني؛ لأنه مطالب به من جهة الإمام في الأموال الظاهرة، ومن جهة نوابه في الأموال الباطنة؛ لأن [ ص: 21 ] الملاك نوابه؛ فإن الإمام كان يأخذها إلى زمن عثمان، وهو وضعها إلى أربابها في الأموال الباطنة؛ قطعا لطمع الظلمة فيها، فكان ذلك توكيلا منه لأربابها، وقيل لأبي يوسف: ما حجتك على زفر؟ فقال: ما حجتي على رجل يوجب في مائتي درهم أربعمائة درهم؟! ومراده إذا كان لرجل مائتا درهم وحال عليها ثمانون حولا ولو طرأ الدين خلال الحول يمنع وجوب الزكاة عند محمد كهلاك النصاب كله، وعند أبي يوسف لا يمنع كنقصان النصاب في أثناء الحول، ثم لا فرق بين أن يكون الدين بطريق الكفالة أو الأصالة حتى لا تجب عليهما الزكاة، بخلاف الغاصب وغاصب الغاصب؛ حيث تجب على الغاصب من ماله دون غاصب الغاصب، والفرق أن الأصيل والكفيل كل واحد منهما مطالب به، أما الغاصبان فكل واحد منهما غير مطالب به بل أحدهما، وإن كان ماله أكثر من الدين زكي الفاضل إذا بلغ نصابا لفراغه عن الدين، وإن كان له نصيب يصرف الدين إلى أيسرها قضاء، مثاله: إذا كان له دراهم ودنانير وعروض التجارة وسوائم من الإبل ومن البقر والغنم وعليه دين، فإن كان يستغرق الجميع فلا زكاة عليه، وإن كان لم يستغرق صرف إلى الدراهم والدنانير أولا؛ إذ القضاء منهما أيسر؛ لأنه لا يحتاج إلى بيعها، ولأنه لا تعلق للمصلحة بعينها، ولأنهما لقضاء الحوائج وقضاء الدين منهما، ولأن للقاضي أن يقضي الدين منهما جبرا، وكذا للغريم أن يأخذ منهما إذا ظفر بهما وهما من جنس حقه، فإن فضل الدين منهما أو لم يكن له منهما شيء صرف إلى العروض؛ لأنها عرضة للبيع بخلاف السوائم فإنها للنسل والدر والقنية، فإن لم يكن لها عروض أو فضل الدين عنها صرف إلى السوائم؛ فإن كانت السوائم أجناسا صرف إلى أقلها زكاة؛ نظرا للفقراء، وإن كان له أربعون شاة وخمس من الإبل يخير؛ لاستوائهما في الواجب، وقيل: يصرف إلى الغنم لتجب الزكاة في الإبل في العام القابل .



(فصل)

ولا زكاة عندنا على الدين المجحود إذا لم تكن عليه بينة، ثم صارت له بعد سنين، بأن أقر عند الناس ولو كانت له فيه بينة وجبت؛ لأن التقصير جاء من قبله، وقال محمد: لا تجب؛ لأن كل بينة لا تقبل، وكل قاض لا يعدل، ولو كان الدين على مقر معسر فهو نصاب عند أبي حنيفة تجب فيه الزكاة؛ لأنه يمكنه الوصول إليه ابتداء أو بواسطة التحصيل، وقال الحسن بن زياد: لا تجب إذا كان الغريم فقيرا؛ لأنه لا ينتفع به، وكذا قال محمد إذا كان مفلسا بناء على تحقيق الإفلاس بالتفليس عنده، وأبو يوسف معه فيه ومع أبي حنيفة في حكم الزكاة رعاية لجانب الفقراء .

قلت: وعبارة الهداية: ومن له على آخر دين فجحده سنين، ثم قامت له بينة لم يزكها لما مضى معناه صارت له بينة بأن أقر عند الناس. ا. ه .

والمراد بهذه البينة: البينة على الإقرار لا البينة على أصل الدين، وإنما لم تجب عليه؛ لأن حجة الإقرار دون حجة البينة، فكأنه لا حجة له بالنسبة إلى حجة البينة بخلاف ما إذا كانت له حجة البينة وغابت سنين، فإنه تجب عليه زكاة ما مضى، وقيد في الخانية الدين المجحود الذي لا بينة عليه بما إذا حلفه القاضي وحلف، أما قبل ذلك فيكون نصابا، وقول محمد صحح في التحفة والخانية، وفي حاشية الدرر لبعض أصحابنا: أن الإمام أبا حنيفة قسم الدين إلى ثلاثة أقسام: قوي: وهو بدل القرض وعروض التجارة وثمن السوائم، ومتوسط: وهو بدل ما ليس للتجارة كثمن عبيد الخدمة وثياب البذلة وأجرة التجارة، وضعيف: وهو بدل ما ليس بمال كالمهر والوصية وبدل الخلع والصلح عن دم العمد والدية والكتابة والسعاية؛ فالدين إذا كان نصابا كاملا وحال عليه الحول عند المديون ثم قبضه الدائن، فإن كان المقبوض من الدين القوي يجب عند قبضه أربعين درهما درهم، وفيما زاد بحسابه، ولا يجب فيما نقص عنه؛ لأن في الكسور لا زكاة فيه عنده، وإن كان من الدين المتوسط يجب عند قبض مائتي درهم خمسة دراهم، ويعتبر ما مضى من الحول في الصحيح، ولا يشترط أن يحول عليه الحول بعد القبض، وإن كان من الدين الضعيف يجب عند قبض مائتي درهم خمسة دراهم، ويشترط أن يحول عليه الحول بعد القبض، وقال: تجب زكاة ما قبض من أي دين كان قل أو كثر؛ لأن الديون كلها في المالية سواء، والدين ملحق بالعين، وتمام الحول عليه في الذمة كتمامه وهو عين، واستثنيا من حكم الدين دين بدل الكتابة والسعاية وكذا [ ص: 22 ] الدية، وأرش الجراحة قبل الحكم بها في رواية، وله أن الدين ليس بمال حقيقة؛ لأنه عرض والمال جوهر، وشرعا؛ لأن من حلف أن لا مال له لا يحنث إذا كانت له ديون غير مقبوضة، فاعتبر الدين بما هو بدله، فإن كان بدلا عن مال تجارة أخذ حكمه فصار قويا، فلا يشترط فيه الحول ولا قبض النصاب الكامل، وإن كان بدلا عن مال ليس للتجارة فباعتبار كونه بدل مال لا يشترط فيه الحول ولا قبض النصاب، وباعتبار أن المال ليس لتجارة يشترط كل منهما، فشرطنا النصاب دون الحول عملا بالشبهين، وإن كان بدلا عما ليس بمال يكون ضعيفا فيشترط الحول والنصاب؛ لأنه ليس بمال باعتبار ذاته ولا باعتبار بدله .

وروى الكرخي أن أبا حنيفة ألحق الدين الأوسط بالدين الأخير في اشتراك الحول بعد قبض النصاب؛ نظرا إلى أنه ليس بمال في ذاته، وترجيحا لاعتبار ذاته على اعتبار بدله، وفي المحيط الخلاف فيما إذا لم يكن له مال غير الدين، فإن كان له مال غير الدين يضم ما قبضه إلى ما عنده اتفاقا؛ لأنه بمنزلة الفائدة اهـ .

ولو ورث دينا على رجل فهو كالوسط، ولو أجر داره أو عبده بنصاب إن لم يكونا للتجارة فكالضعيف وإن كان لها فكالقوي، ولو اختار الشريك تضمين المعتق إن كان المعتق للتجارة فكالوسط وهو الصحيح، وإن كان للخدمة فكذلك أيضا ولو اختار استسعاء العبد فكالضعيف، وفي القنية عن الظهير المرغيناني: ولو أبرأ رب الدين المديون عن الدين بعد الحول فإن كان المديون فقيرا لا يضمن بالإجماع، وإن كان غنيا ففيه روايتان اهـ .



(تنبيه)

أورد البيهقي في السنن في باب الدين مع الصدقة قول عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي استدل به أصحابنا، وسبق ذكره، وهو قوله: هذا شهر زكاتكم؛ فمن كان عليه دين فليؤد دينه، حتى تحصل أموالكم فتؤدون منها الزكاة. أورده من طريق الزهري عن السائب بن يزيد عن عثمان أنه خطبنا على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:.. فساقه .

وقال: رواه البخاري عن أبي اليمان عن شعيب عن الزهري، ثم ذكر عن حماد قال: يزكي ماله وإن كان عليه من الدين مثله، ثم قال: وهو قول الشافعي في الجديد، وكان يقول يشبه أن يكون عثمان إنما أمر بقضاء الدين قبل حلول الصدقة في المال، وقوله: هذا شهر زكاتكم؛ أي: الذي إذا مضى حلت زكاتكم، قلت: الكلام معه في هذا الباب من وجوه: أولا: بأن البخاري لم يذكره في صحيحه هكذا، وإنما ذكر عن السائب أنه سمع عثمان على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزد على هذا، ذكره في كتاب الاعتصام في ذكر المنبر، وكذا ذكر الحميدي في الجمع قال: ومقصود البخاري به إثبات المنبر، هكذا تعقبه النووي في شرح المهذب، ونقله الحافظ في تخريج الرافعي.

ثانيا: هذا تأويل مخالف للظاهر، وقد أخرج الطحاوي في أحكام القرآن كلام عثمان، ولفظه: فمن كان عليه دين فليقضه وأدوا زكاة بقية أموالكم، وقوله: زكوا ما بقي من أموالكم دليل على وجوب الزكاة عليه قبل ذلك، ولو كان رأيه وجوب الزكاة في قدر الدين لكان أبعد الخلق من إبطال الزكاة تعليمهم الحيلة فيه، وثالثا: هذا الأثر رواه مالك في الموطأ والشافعي عنه عن الزهري، ثم روى عن يزيد بن خصيفة أنه سأل سليمان بن يسار عن رجل له مال وعليه دين أعليه زكاة؟ قال: لا، وقال صاحب التمهيد: قول عثمان رضي الله عنه يدل على أن الدين يمنع زكاة العين، وأنه لا تجب الزكاة على من عليه دين، وبه قال سليمان بن يسار وعطاء والحسن وميمون بن مهران والثوري والليث وأحمد وإسحاق ومالك، إلا أنه قال: إن كان عنده عروض تفي بدينه عليه زكاة العين، وقال الأوزاعي: الدين يمنع زكاة العين. اهـ .




الخدمات العلمية